مؤمن الهباء يكتب: في حب الدكتور حلمي القاعود

يحار الكاتب حين يكتب عن صديقه، أيبدأ بالخاص أم يبدأ بالعام؟ وتشتد الحيرة حين يكون الفقيد بحجم العالم الجليل الأستاذ الدكتور حلمي محمد القاعود، المفكر الكاتب النابه، الأديب المبدع الناقد، الخطيب المحاضر المفوه، الناسك الطهور الطاهر، الوطني الغيور على بلده وأمته، الأكاديمي المتمكن.
عن أي هذه الصفات يبدأ الحديث، وكل واحدة منها تحتاج إلى كتاب لتوفي بعضا من حق الراحل العظيم الذي فقدته الإنسانية، وفقدته الحياة الثقافية والدينية والفكرية، وفقدته شخصيا صديقا عزيزا حكيما كريما، صادق النصيحة، صائب الرؤية، وافر العطاء كالغيث المنهمر، أينما حل نفع، وفي أي مجال كتب أفاد.
حين يكون الفقد أليما والحزن عميقا تتوه البدايات، ويختلط الخاص بالعام، ويشتبك العقل بالعاطفة، ويختلط المنطق بالمشاعر، فتأتي الكلمات مندفعة مبعثرة في غير ترتيب، وتخرج العبارة تلقائية دون تكلف التنميق والتجويد.
كان أول لقاء لي بالدكتور القاعود في أواسط الثمانينيات عندما كان يأتي زائرا لأديبنا الكبير المرحوم الأستاذ محمد جبريل في جريدتنا (المساء)، يسلمه مقالا أو يهديه كتابا، ويتناقش الصديقان على مقربة مني، كنت وقتها رئيسا للقسم الخارجي وأشارك الأستاذ جبريل في حجرة المكتب بالدور الثالث في المبنى القديم لمؤسسة (دار التحرير للطبع والنشر) بشارع نجيب الريحاني، وذات لقاء قدمني له الأستاذ جبريل فشاركت على استحياء في حوارهما، ومرة بعد مرة صرت لا أتحرج من مشاركتها في الحوار، ومرة بعد مرة صرت صديقا للدكتور القاعود، فأهداني بعض كتبه، وتبادلنا أرقام التليفونات، وظهرت لنا اهتمامات كثيرة تربط بيننا، واكتشفنا أن لنا أصدقاء مشتركين كثيرين.
منذ ذلك الحين لم تنقطع صلاتنا وحواراتنا، أحببت في الرجل خلقه الرفيع، وبساطته وصدقه مع نفسه ومع الآخرين، وشجاعته في الدفاع عما يعتقد أنه الحق، وجدت فيه نموذجا إنسانيا راقيا، وقدوة صالحة لمن أراد أن يتثقف ثقافة حقيقة تربط الأصالة بالمعاصرة، وأن يكون انتماؤه خالصا لأمته ولوطنه مصر، مصر العربية الإسلامية، التي صهرت كل أبنائها في سبيكة واحدة، رغم اختلافهم في الدين أو العرق أو اللون، فصاروا جميعا مصريين متساوين في الحقوق والواجبات الدستورية والوطنية.
وفي عام 1993 شاء الله تعالى لي أن أعمل في الرياض عاصمة السعودية، حيث كان يعمل هناك أستاذا مشاركا بكلية المعلمين، وأتيح لنا أن نلتقي أسبوعيا تقريبا مع مجموعة من الأصدقاء والأحباء، ما ساعد على تعميق صداقتنا، ثم استكملنا تواصلنا بعد أن عاد كل منا إلى مصر فى العام نفسه (1994) رغم بعد المسافات، فقد آثر أن يقيم في قريته (المجد) بمحافظة البحيرة التي لم يغادرها إلا إلى العمل خارج مصر، واستقر به المقام في جامعة طنط أستاذا ورئيسا لقسم اللغة العربية في كلية الآداب، وهذا ما جعل لقاءاتنا مقصورة على الندوات والمناسبات العامة.
وفي الصيف الماضي ذهبت لزيارته في القرية بصحبة الصديقين؛ الأستاذ مجدي أحمد حسين رئيس تحرير جريدة (الشعب)، والأستاذ سيد حسين رئيس تحرير سلسلة (كتاب الجمهورية) سابقا، قضينا معه يوما ماتعا أثراه بحوار ثقافي متشعب، وسعدنا فيه بالتعرف إلى نجله الدكتور محمود القاعود الذي يحمل رسالة والده الثقافية والفكرية والوطنية بقدر ما يحمل من جيناته الوراثية.
في هذا اللقاء قلت له إنني على وشك إصدار كتابي (طوفان الأقصى معجزة العصر) بأنني راغب في أن يكتب له مقدمة، فتهلل وجهه فرحا، وأشاد بالفكرة وعنوان الكتاب وتوقيت صدوره، ووافق على أن يكتب مقدمته، وأخبرنا بأنه يعكف أيضا على إعداد كتاب عن هذا الطوفان الذي أعاد للأمة كرامتها وكبرياءها، وفي غضون أيام قلائل أرسل مقدمة بديعة، أثنى فيها على الكتاب وصاحبه، وضمنها رؤية إستراتيجية حول هذا الحدث التاريخي الشجاع.
ولم ينس أن يهدي كلا منا مجموعة من كتبه، وكان من نصيبي أربعة كتب قيمة هي: (متنبي الرواية.. نجيب محفوظ)، (قصتي مع محمد عبد الحليم عبد الله.. الغروب المستحيل)، (الوردة والمستنقع.. خطاب الإرهاب في الرواية العربية)، (أدب الصورة وأدب الكلمة).
كنت دائما أغبطه على تعدد مواهبه وغزارة إنتاجه رغم مشاغله الكثيرة، وحضوره الكثيف في الحياة الثقافية رغم محاولات تهميشه، وقد كان بالفعل رقما صعبا في مواجهة الماركسيين والعلمانيين الإقصائيين، الذين كان يتصدى لضلالاتهم في كتاباته، وفي ندوات المجلس الأعلى للثقافة، وفي البرامج الثقافية والدينية بالإذاعة والتليفزيون، ومقالاته المنشورة في الأهرام والأخبار والجمهورية والمساء والوفد ومجلة الهلال والمجلات الثقافية المعتبرة، بالإضافة إلى كتبه المتنوعة، التي جمعت بين دراساته في النقد الأدبي، واجتهاداته في الفكر الإسلامي، بالإضافة إلى قدراته الإبداعية، فقد نشر نحو 20 رواية ومجموعتين قصصيتين، والسيرة الذاتية التي تقع في أربعة أجزاء.
وتضم مكتبتي قسما كاملا لكتب الدكتور القاعود، أشهرها رواياته: (الحب يأتي مصادفة)، (رائحة الحبيب)، (شغفها حبا)، (محضر غش)، (شكوى مجهولة)، (الرجل الأناني)، (اللحية التايواني)، (الشمس الحارقة)، (أم سعيد)، (شجرة الجميز)، (مالك الملك)، (مكر الليل والنهار)، (مجلة الأنس).
وللدكتور القاعود صوت مميز ومكانة سامقة بين أقرانه من علماء اللغة والأدب والبلاغة، وكتبه في هذا المجال جعلت له بصمة علمية خاصة به لا تشبهها بصمة أخرى، وأهم هذه الكتب: (الورد والهالوك.. شعراء السبعينات في مصر)، (الرواية التاريخية في عصرنا الحديث)، (الرواية الإسلامية المعاصرة)، (الحداثة العربية.. المصطلح والمفهوم)، (مدرسة البيان في النثر الحديث)، (حوار مع الرواية المعاصرة في مصر وسورية)، ( موسم البحث عن هوية.. دراسات في الرواية والقصة)، (حكايات الجواري والعبيد.. الرواية المضادة)، (شعراء وقضايا.. قراءة في الشعر العربي الحديث)، (مختصر النقد الأدبي الحديث)، (محمد في الشعر العربي الحديث)، (القصائد الإسلامية الطوال في العصر الحديث).
أما كتبه التي تحمل رؤية فكرية فجلها تدافع الإسلام وقيمه، وعن الهوية العربية الإسلامية، وعن الحرية، وتتصدى لأفكار العلمانيين والحداثيين ودعاة المشروع التغريبي، ومن هذه الكتب: (ثقافة التبعية.. المنهج.. الخصائص.. التطبيقات)، (أهل الفن وتجارة الغرائز)، (الأقصى في مواجهة أفيال أبرهة)، (مسلمون لا نخجل)، (دفاعا عن الإسلام والحرية)، (الوعي والغيبوبة)، (اخلع إسلامك تعش آمنا.. دفاعا عن الإسلام ضد مثقفي الحظيرة)، (عباد الرحمن وعباد السلطان)، (المآذن العالية.. رجال من ذهب)، (الصلح الأسود.. رؤية إسلامية لمبادرة السادات والطريق إلى فلسطين)، (التنوير.. رؤية إسلامية)، (انتصار الدم على السيف)، الإسلام في مواجهة الاستئصال).
سألته ذات مرة: بعد كل هذا الإنتاج الوافر المتنوع، ما نصيبك من الجوائز والتكريمات التي تعج بها المؤتمرات والمحافل الثقافية، والتي تذهب إلى أنصاف المتعلمين وأشباه المثقفين؟ فقال مبتسما: يا أخي أنت تعرف أن الماركسيين والعلمانيين والحداثيين يسيطرون بالكامل على المشهد الثقافي، وهم لا يريدون أن يروا مثلي بينهم، ويوزعون الجوائز والتكريمات على أنفسهم، وعلى من شايعهم وليس على من يتصدى لأفكارهم المهلكة، وهذا لا يزعجني أبدا، وجوائزي الحقيقية هم تلاميذي وما كتب عني من كتب ومقالات ودراسات للماجستير والدكتوراة، ومع ذلك فقد حصلت على جائزة المجمع اللغوي عام 1968، وجائزة المجلس الأعلى للعلوم والفنون عام 1974، وجائزة نادي جازان الأدبي عام 1991، وجائزة اتحاد الكتاب عام 2015، وجائزة التميز في النقد الأدبي من اتحاد الكتاب أيضا عام 2020، والحمد لله أنا قانع وراض تماما عما حققت، وأتمنى أن أنال جائزتي الكبرى من رضا ربي تبارك وتعالى عني في الدنيا والآخرة.
قبل أسبوع من وفاته رحمه الله، وبالتحديد يوم الثلاثاء 6 مايو2025، كنت والصديق الأستاذ سيد حسين في زيارته بالمستشفى في مدينة نصر، واستقبلنا كعادته بابتسامته المعهودة، وترحيبه القروي المحبب، وشغلنا بحديث ودود عن الذكريات والأسرة والأحفاد، حتى ظننا أن وعكته بسيطة وستمر بسلام، دعونا له بالشفاء العاجل، وخرجنا من عنده على وعد بلقاء قريب في قريته، أو في منزل ابنه زميلنا الصحفي محمد بالقاهرة، لكنه غافلنا وسبقنا كالعادة، انتقل إلى جوار ربه يوم الثلاثاء التالي (13 مايو 2025)، ذهب بكل ما قدم للإنسانية على مدى أعوامه الثمانين من علم وجهاد وعطاء وقيمة، وبما أدى من رسالة وأمانة.
{يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي}.