في قلب المحيط الأطلسي، تمتد مساحة بحرية بين ميامي وبرمودا وبورتوريكو، اشتهرت باسم “مثلث برمودا”.
هنا، قيل إن السفن اختفت، والطائرات تبخرت، والبحّارة كتبوا رسائلهم الأخيرة قبل أن يبتلعهم البحر.
نصف قرن من الغموض جعل هذه البقعة رمزاً للأسطورة، وساحة جدل بين العلم والخيال، بين التفسير العقلاني والسرد الدرامي.
فهل المثلث لعنة غامرة، أم مجرد صناعة إعلامية؟
الغموض الذي صنعته الأمواج
ظلّ اسم “مثلث برمودا” لعقود طويلة مرادفاً للغموض، ومصدراً لقصص السفن الغارقة والطائرات المختفية في قلب الأطلسي.
وقد ارتبطت به منذ الأربعينيات حوادث مثيرة جعلته رمزاً لـ”أخطر مكان في العالم”.
لكن، هل نحن أمام حقيقة علمية، أم أمام أسطورة صاغها الإعلام والخيال البشري؟
الكتب الأجنبية: من برلتز إلى كوش
أول من أشعل فتيل الأسطورة كان الكاتب تشارلز برلتز في كتابه الشهير “مثلث برمودا”. كتب برلتز: “لا يمكن تفسير هذه الحوادث بمجرد خطأ ملاحي أو عاصفة بحرية، ثمة شيء أكبر مما نعرف، وربما كنا أمام سر حضارة ضائعة أو قوة لا تزال مجهولة للبشرية”. وقد لقي الكتاب رواجاً عالمياً، لكنه واجه نقداً علمياً واسعاً.
أما أوليفر لورانس في كتابه “حقيقة مثلث برمودا” فقد قال: “الحقيقة تكمن بين سطور الحوادث، فمنها ما يمكن تفسيره علمياً، ومنها ما لا يزال يطرح السؤال: لماذا هنا بالذات؟”، فترك الباب مفتوحاً بين الخيال والعلم.
بينما جاء ريتشارد وينر في كتابه “المحيط الملعون” ليصف المثلث بلهجة درامية: “كأن هذه المياه تبتلع من يجرؤ على خوضها، لتترك خلفه أثراً من الرعب والحيرة”.
في المقابل، كان لاري كوش أكثر حدة في كتابه “لغز مثلث برمودا محلول”، إذ قال: “الأسطورة ولدت من أخطاء في النقل الصحفي، وحوادث لم تكن يوماً غامضة كما زُعم، إنما أُعيدت صياغتها لتناسب حب الناس للغرابة”.
الكتب العربية: فضول القارئ بين الغرابة والتفسير
في العالم العربي، تُرجم كتاب لورانس بعنوان “حقيقة مثلث برمودا”، وكان مدخلاً لفهم الرواية الغربية. ثم جاء الكاتب عبد الرزاق نوفل في كتابه “لعنة الأطلنطي” قائلاً: “ربما يكون مثلث برمودا شاهداً على كارثة غامرة أودت بقارة أطلانتس، ولا تزال آثارها تنبعث في تلك البقعة من المحيط”.
أما منصور عبد الحكيم في كتابه “مثلث برمودا بين الحقيقة والخيال” فقد علّق قائلاً: “كثير من القصص التي راجت عن المثلث مبالغات لا سند لها، والبحر مليء بما يكفي من الأخطار الطبيعية ليُغني عن البحث عن قوى خفية”.
كما جاءت مقالات مجلة “العربي” الكويتية و”العلوم” المصرية مؤكدة أن: “المثلث لا يختلف في معدل حوادثه البحرية عن أي منطقة أخرى في الأطلسي، سوى أن الإعلام ضخم ما وقع فيه حتى صنع أسطورة كاملة”.
المعارضة العلمية: تفكيك الأسطورة
لم تخلُ الساحة من كتب ناقدة، مثل “برمودا: الغموض المفتعل” الذي جاء فيه: “إنه الغموض الذي صاغته دور النشر أكثر مما صاغه البحر، فالحوادث التي نُسبت للمثلث لا تخرج عن حوادث الملاحة المعتادة”.
أما في الساحة العربية، فقد كتب بعض الباحثين في مقالات علمية: “الأعاصير الاستوائية، والتيارات البحرية القوية، والأخطاء البشرية، جميعها كافية لتفسير الظاهرة دون اللجوء إلى أساطير أو خوارق”.
الحوادث الشهيرة: من “السرب 19” إلى “سيكلوبس”
الحوادث التي غذّت الأسطورة أشهرها اختفاء سرب الطائرات 19 عام 1945 أثناء تدريب عسكري، إذ كتب أحد الطيارين في رسالته اللاسلكية الأخيرة: “كل شيء يبدو غريباً هنا… لا نعرف الاتجاهات، والبحر لا يبدو كالمعتاد”. هذه الجملة وحدها صارت مادة خصبة للأساطير.
أما سفينة “يو إس إس سيكلوبس” التي غرقت عام 1918 وعلى متنها 309 أشخاص، فلم يُعثر لها على حطام قط. هذا الغياب التام عزّز صورة المثلث كمنطقة ابتلاع لا ترحم.
بين الغرب والعرب: استقبال مختلف للغموض
في الثقافة الغربية، وجد مثلث برمودا أرضاً خصبة في سياق الحرب الباردة، حين كان القلق من المجهول يترافق مع انبهار العلم وسباق الفضاء. لذلك جاءت الكتب محملة بالخيال العلمي ونظريات المؤامرة.
أما في الثقافة العربية، فقد استُقبلت الظاهرة بفضول شديد. بعض الكتّاب حمّلها أبعاداً روحانية، كما فعل عبد الرزاق نوفل، بينما سعى آخرون – مثل منصور عبد الحكيم – إلى إعادة الأسطورة إلى سياقها الطبيعي. وهكذا صار برمودا عند العرب جزءاً من أدب “الغريب والعجيب”، لكنه في الوقت نفسه ميداناً للنقاش العلمي.
حين يصنع الخيال أسطورته
إن تاريخ مثلث برمودا يقدّم درساً عن العلاقة بين العلم والأسطورة: كيف يمكن لحوادث محدودة أن تتحول إلى رمز عالمي للغموض، وكيف يسهم الأدب والإعلام في صناعة أساطير تتجاوز حدود الجغرافيا.
وسواء كان المثلث مجرد منطقة بحرية كغيرها، أو رمزاً لأسرار لم تُكتشف بعد، فإنه سيظل في الوعي الجمعي مثالاً على قدرة الخيال على صناعة “حقيقة موازية”، وعلى صراع الإنسان الدائم بين شغفه بالعلم وحبه للأسطورة.