في الأيام التي سبقت يوم الاقتراع في الانتخابات الرئاسية الأميركية، حاولت واشنطن التوسط في هدنة مؤقتة بين حزب الله وإسرائيل.
ولكن إسرائيل لم تستسلم، على أمل تحقيق مكاسب عسكرية بعيدة المنال، ورغم جهود الوساطة، واصلت إسرائيل قصفها المكثف للبنان ومحاولاتها المتعثرة لشن هجوم بري في الجنوب. وفي يوم السبت، حققت إسرائيل إنجازاً جديداً بإنزال بحري على شاطئ البترون.
في هذه الأثناء، انتخب مجلس شورى حزب الله أميناً عاماً جديداً لخلافة حسن نصر الله الذي اغتيل في 27 سبتمبر/أيلول في غارة جوية إسرائيلية على المقر السري لحزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت.
وكان من المتوقع أن يحل هاشم صفي الدين محله، حيث تم إعداده لهذا المنصب منذ عقود، حتى قتلته غارة إسرائيلية أخرى.
استغرق الأمر عدة أسابيع لتأكيد عملية القتل، حيث قامت إسرائيل، تمشيا مع الوحشية التي أظهرتها على مدى العام الماضي، بتحويل المنطقة إلى منطقة محظورة بغاراتها الجوية المتواصلة، مما منع فرق الإنقاذ من الوصول لمساعدة المدنيين المحاصرين تحت الأنقاض.
وبعد انتشال جثة صفي الدين، بدأ حزب الله البحث عن أمين عام جديد. وعلى النقيض من التوقعات التي قد تدعو إلى فترة من الزعامة الجماعية كنوع من التكريم لنصر الله، انتخب مجلس شورى حزب الله نعيم قاسم في قرار يعتقد المحللون أنه كان يهدف إلى إعادة تأكيد وحدة واستقرار منظمة المقاومة اللبنانية.
ويمثل قاسم، الذي يشغل منصب نائب الأمين العام منذ عام 1991، استمرارية الحزب. فبالإضافة إلى معرفته العميقة بإدارة حزب الله، فإنه يحظى باحترام واسع النطاق باعتباره مرجعاً دينياً شيعياً. ومع ذلك، لم يكن منخرطاً بشكل وثيق في الجانب العسكري لمنظمة المقاومة ولم يكن قط عضواً في مجلس الجهاد، الذي أشرف على شؤونها العسكرية منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين.
ويبدو أن حزب الله اختار ترقية شخصية سياسية بارزة حتى لا يخاطر بفقدان زعيم عسكري رئيسي آخر من خلال جلبه إلى الأضواء من خلال انتخابه زعيماً للحزب. ولم تخف إسرائيل تهديدها بقتل أي شخص يتم تعيينه أميناً عاماً للحزب.
وفي أول خطاب له بعد تعيينه، قال قاسم إن حزب الله استعاد توازنه بعد الضربات التي تعرض لها خلال 11 يوماً فقط، وأنه بدأ بالرد بصواريخ بعيدة المدى قادرة على الوصول إلى عمق الداخل الإسرائيلي.
وقال إن قوات حزب الله أحبطت تقدم قوات الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب، وأوقعت فيها خسائر بشرية بلغت 90 قتيلاً و750 جريحاً، ودمرت 40 دبابة وأربع جرافات عسكرية، وأسقطت خمس طائرات مسيرة.
واعترفت تل أبيب بخسارة 38 جندياً فقط في لبنان خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول.
ورغم أن قاسم قد لا يكون ندا لنصر الله من حيث الكاريزما والمهارات الخطابية، فإنه كان قادرا على بث الهدوء والثقة اللازمين لطمأنة أنصار حزب الله وإعطاء الأمل لأكثر من مليون مدني نازح ومصاب بصدمة بسبب القصف الإسرائيلي.
وحيا قاسم النازحين على صبرهم وصمودهم، كما وجه التحية إلى العديد من أبناء الشعب اللبناني من مختلف الأديان والطوائف الذين استضافوهم، ووعد بتعويض الضحايا وإعادة الإعمار، كما حدث بعد أن صدّ حزب الله العدوان الإسرائيلي في العام 2006.
ولا يبدو أن قاسم عازم على ترك بصماته على حزب الله. فقد كان تركيزه منصباً على الاستمرارية والرغبة في اتباع المثال الذي وضعته القيادة السابقة. وكان يشير مراراً وتكراراً إلى نصر الله باعتباره زعيماً استثنائياً يتمتع بالقدرة على بناء هيئات حزب الله على نحو مؤسسي لضمان قدرتها على العمل بفعالية بعد رحيله.
وأكد أن العلاقة المتبادلة بين إيران وحزب الله ستستمر، وأن حزب الله يستطيع القتال لأشهر دون أن يطلب وقف إطلاق النار. ومن ناحية أخرى، إذا عرضت عليه هدنة، فإنه سيقبلها ويدرس مقترحات جدية لإنهاء الحرب بمجرد سريان وقف إطلاق النار.
لقد كان رئيس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري يتفاوضان بشكل غير مباشر من خلال الولايات المتحدة بشأن اتفاق محتمل لوقف إطلاق النار. ورغم أن بيروت أكدت مراراً وتكراراً استعدادها لتطبيق قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 على الفور ونشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة والجيش اللبناني في الجنوب، فإن تل أبيب تصر على أن هذا ليس كافياً وتريد وسائل إضافية لضمان تنفيذ القرار.
لقد زار المبعوث الأميركي الخاص آموس هوكشتاين بيروت قبل أسبوعين، حاملاً معه مقترحاً آخر لتطبيق القرار 1701. وفي حين لم يتم الكشف عن معظم مضمون المقترح، فإن المعلومات المسربة تشير إلى أنه يحتوي على أحكام تمنح إسرائيل الحرية في إجراء عمليات عسكرية في لبنان براً وجواً وبحراً لمنع حزب الله من إعادة تسليح نفسه وإعادة تأسيس وجود عسكري في الجنوب بعد تنفيذ القرار.
وتابعت إسرائيل زيارة هوكشتاين بتصعيد قصفها للمنشآت المدنية الحيوية في صور وبعلبك والهرمل والضاحية، وهي المناطق التي تتواجد فيها دوائر بري الانتخابية. واستهدفت الصواريخ الإسرائيلية المناطق المحيطة بالمستشفيات ومرافق الدفاع المدني والمواقع المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي في صور وبعلبك.
ظاهريًا، كان الهدف “السياسي” من التدمير هو زيادة الضغط على لبنان لإجبار حزب الله على قبول اتفاق يسمح لإسرائيل بانتهاك السيادة اللبنانية متى شاءت.
عاد هوكشتاين إلى المنطقة الأسبوع الماضي، وهذه المرة زار تل أبيب لإقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بقبول الهدنة. كانت هذه آخر محاولة قبل الانتخابات لإظهار للأميركيين العرب أن إدارة بايدن-هاريس تفعل “كل ما في وسعها” لإنهاء الحرب.
وكان هوكشتاين برفقة مبعوث أميركي آخر، بريت ماكجورك، وقد وضعا معاً اقتراحاً يدعو إلى هدنة مدتها 60 يوماً، تنفذ خلالها قوات الاحتلال الإسرائيلي انسحاباً تدريجياً من البلدات والمدن التي دمرتها في جنوب لبنان، في حين تتمركز قوات اليونيفيل والجيش اللبناني في هذه المناطق حتى الحدود اللبنانية مع إسرائيل.
وكما كان متوقعا، رفض نتنياهو الاقتراح، مقتنعا بأنه سيفوز بالقوة أكثر من الدبلوماسية، وأنه سيكون من الأفضل الانتظار لمعرفة من سيكون الرئيس التالي للبيت الأبيض قبل اتخاذ قرار بشأن خطوته التالية.
وبعد فشل المبعوثين الأميركيين في الحصول على نتائج من تل أبيب، تم تقديم محاولة أخيرة لإقناع لبنان بإعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد، لكن الاقتراح قوبل بالرفض.
وفي إطار إظهار حريتها في انتهاك السيادة اللبنانية، نفذت قوة كوماندوز إسرائيلية تضم نحو 25 جندياً من مشاة البحرية عملية إنزال على شاطئ البترون يوم السبت، على ما يبدو لاختطاف قبطان بحري.
وتزعم السلطات الإسرائيلية أنه كان شخصية رفيعة المستوى في القوات البحرية لحزب الله، وكان يشرف على نقل الأسلحة عن طريق البحر. ولم يعلق حزب الله على صلة القبطان المزعومة. ونفت الأجهزة الأمنية والعسكرية اللبنانية أن يكون المختطف منتميًا إلى أي من رتبها، مؤكدة أنه كان نقيبًا مدنيًا يتلقى دورة تدريبية لبناء القدرات في معهد للعلوم البحرية في المنطقة.
من المستحيل أن نعرف ما إذا كان حزب الله قد نجح في معالجة الخلل الأمني الذي سهّل اغتيال كبار قادته في وقت سابق. ولكن إذا كان القبطان على صلة بحزب الله بالفعل، فإن اختطافه يشير إلى أن عملاء إسرائيل أو حلفائها ربما تم اكتشافهم، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى اللجوء إلى تكتيكات الاختطاف لجمع المعلومات الاستخباراتية.
ومهما كانت الحال، فإن هذه العملية تعكس رغبة إسرائيل في تنفيذ عملياتها في لبنان دون رادع، وهو ما قد يساعد أيضاً في تفسير إحجامها عن قبول مبادرات وقف إطلاق النار. وتحسب إسرائيل أن الأعمال العدائية المستمرة تبقي خياراتها مفتوحة لإبراز تفوقها العسكري والوصول إلى أي مكان تزعم أنه يشكل تهديداً لأمنها.
لقد شردت إسرائيل أكثر من 1.2 مليون إنسان بسبب قصفها المتواصل لجنوب لبنان والبقاع وجنوب بيروت. كما دمرت عدداً لا يحصى من المباني السكنية والمرافق المدنية بحجة أنها مخابئ أو مستودعات أسلحة لحزب الله.
منذ أن شنت إسرائيل هجومها على لبنان، قتلت ما لا يقل عن 2986 مدنياً وأصابت 13402 آخرين. وبعد خمسة أسابيع من هذه الوحشية، لم تتقدم القوات الإسرائيلية إلا ثلاثة كيلومترات داخل جنوب لبنان، في حين تزعم أنها دمرت البنية الأساسية الدفاعية لحزب الله وقسماً كبيراً من أسلحته ومخزوناته من الصواريخ.
وكان رد حزب الله هو إطلاق نحو 200 صاروخ يومياً على أهداف عسكرية، مثل المصانع العسكرية والقواعد والمطارات والمواقع والمنشآت العسكرية على طول الحدود من المطلة في الشرق إلى الناقورة في الغرب.
وتستمر طائرات حزب الله بدون طيار في اختراق المجال الجوي الإسرائيلي دون رادع، حيث وصلت إلى مناطق في محيط تل أبيب وأجبرت نحو مليوني إسرائيلي على اللجوء إلى المخابئ المحصنة، وشلّت الحياة الطبيعية بشكل عام في الشمال خلال الهجمات الصاروخية والطائرات بدون طيار.