سؤال:
قال لي بعض تلاميذي من دورة الإفتاء: إلى متى أقرأ كتب العلم والأدب على الشيوخ وأستفهمهم ما صعب علي من النصوص وما ند عني من معانيها؟ وكيف أستقل بنفسي دون الرجوع إليهم؟ وهل من آية على هذا الاستقلال؟
الجواب:
قلت: إن ثمة مرحلتين في التأهيل العلمي:
الأولى هي اللغة، فهي وسيلة إلى العلوم والفنون كلها، ولا تأخذها من كبار السن، بل ابحث عن أساتذة شباب بعيدين عن التعب والكسل، تستشعر منهم نشاطا وقوة، يعلمونك بسكناتهم وحركاتهم، وبنطقهم وأصواتهم، وينبهونك على أخطائك دون محاباة، تدرس عليهم الجمل والمفردات، وتحفظ عليهم النحو والصرف والبلاغة، ثم تتدرج إلى كتب الأدب نثرها وشعرها من العهد الجاهلي إلى الإسلامي والأموي والعباسي والعصر الحديث، وتدرس عليهم كتابا في مبادئ كل فرع من علم اللغة، وكتابا آخر متطورا.
فإذا تمكنت من اللغة وآدابها بعض التمكن وقد أحسنت النحو والصرف فاشغلن نفسك بدراستك الشخصية للكتاب المبدعين والشعراء المطبوعين، واجهد أن تتفهم إنتاجاتهم مستعملا القواميس وبعض الشروح، ولا ترجعن إلى شيوخك في حل مشكلة والكشف عن عويص إلا إذا أعياك البحث، واعتن بالتدرب على الكتابات العلمية والأدبية، واستقم على هذا الدرب إلى أن تموت، وإني أضرب لك مثلا من نفسي، فقد بدأت دراسة اللغة العربية وأنا ابن عشر سنوات، ولم أنصرف عنها طوال عمري، ومع ذلك فقلما أطالع شيئا من دواوين الجاهليين ومن بعدهم إلا وتمر بي كلمات أو تعبيرات جديدة فلا أستوعبها إلا بالاستعانة بقاموس أو شرح من الشروح.
والثانية هي مرحلة عامة العلوم والفنون، تقرأ على شيوخك مقدمة من مقدمات كل فرع منها، فإذا حفظتها ووعيتها فاقرأ عليهم كتابا من مؤلفات المحققين يعطيك فكرة واضحة عن ذلك العلم، واختر من الشيوخ من لا يتقيد بمتن الكتاب، بل يقرر عليك المعاني شرحا وإيضاحا ونقدا ومعارضة.
واعلم أن لكل علم حدوده ومصطلحاته فاستوعبها استيعابا، وإياك أن تخلط بينها فترمى بالجهل والغفلة، وقد رأيت عالما من علماء الهند ترجم أشياء من تاريخ ابن كثير إلى اللغة العربية، وقد أسند ابن كثير قصة من طريق الزهري، ثم جاء بطريق آخر: “وبه قال الزهري”، فترجمه هذا العالم بأن هذه هي فتوى الزهري، وإنما أراد ابن كثير مصطلح المحدثين، أي “بالإسناد السابق إلى الزهري، قال”، وهذا أمر لا يخفي حتى على عامة طلاب الحديث، وخلط المترجم بين هذا المصطلح ومصطلح آخر يستعمله الفقهاء، وهو أنهم ينقلون رأي أبي حنيفة مثلا، ويتبعونه: “وبه قال أبو يوسف” أي قال أبو يوسف برأي أبي حنيفة وأفتى به.
وإن مثل هذا التخليط لعيب كبير للعالم، ولقد رأيت السخاوي يترجم لعالم فيقول: “الماضي أبوه” أو “الماضي أخوه” أو مثل ذلك، يوعز بذلك إلى ما سبق من ترجمة أبي هذا العالم أو أخيه، فرأيت عمر رضا كحالة ينقل كلام السخاوي جاعلا “الماضي” لقبا لهذا العالم، واطلعت على جزء حديثي طبع في جامعة أم القرى، والجزء يبدأ بإسناد المؤلف إلى الحجار ومنه إلى صاحب الجزء، فيعلق المحقق على اسم “الحجار” بقوله: “لم أعثر على ترجمته”، فعجبت من غفلته في زمن يتمنى فيه كل مستجيز أن يصير حجار زمانه.
فإذا استوعبت أساسيات العلوم فلا بأس أن تستغني عن الشيوخ وتباشر مطالعة الكتب المتقدمة حتى تكون في نفسك ثقة بكفاءتك، ولا تغترن بعلمك، بل استشر شيوخك وغيرهم من أهل العلم كلما أشكل عليك أمر أو سنحت لك فكرة، واعلم أن العلم بحر لا ساحل له.