عُقِد مساء يوم الثاني والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 1446هـ، بعد صلاة المغرب، في قاعة العلّامة الجليل الشيخ حيدر حسن خان الطونكي رحمه الله بدار العلوم لندوة العلماء، حفل توقيع الكتاب الموسوم بـ(الشيخ سعيد الأعظمي الندوي: حياته وآثاره)، الذي تولّى تأليفه الأستاذ الدكتور محمد فرمان الندوي، مدير مجلة “البعث الإسلامي”، وأستاذ الأدب العربي بدار العلوم، وأحد كتاب العربية النابغين في الهند، ممن عُرفوا بجمعهم بين التحقيق العلمي، والذوق الأدبي، والوفاء لأهل الفضل والعلم.
وقد انعقد هذا الحفل المبارك تحت رئاسة فضيلة الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني حفظه الله رئيس ندوة العلماء، وبحضور كوكبة من العلماء الأفاضل وشيوخ دار العلوم، وجمع غفير من طلابها وروّادها، في أجواء علمية روحانية، عمّها الشعور بالفخر والاعتزاز، والإكبار لرمز من رموز الدعوة والعلم والأدب، فضيلة الشيخ سعيد الأعظمي الندوي – متّعه الله بالصحة والعافية – الذي أفنى عمره في خدمة العربية والدعوة الإسلامية، وأثرى المكتبة الإسلامية والعربية بعلمه وتوجيهه وخلقه الراقي.
وقد أتيح لي، وإن لم أكن من الحاضرين حضورًا حسّيًا، أن أتابع وقائع هذا الحفل الجليل عن بُعد، فأحسست كأنّي كنت بينهم، أعيش تلك اللحظات التاريخية، وأنتفع بمضامينها وتجلّياتها، فإن للمناسبات العلمية الصادقة نورًا يخترق الحواجز، ويصل إلى القلوب أينما كانت، والحضور بالقلب والعقل – كما قيل – أصدق من حضور الجسد أحيانًا:
يا من يذكرني حديث أحبتي
طاب الحديث بذكرهم ويطيب
أعد الحديث عليّ من جنباته
إن الحديث عن الحبيب حبيب
وعادت بي الذاكرة إلى أيام الطلب في دار العلوم، إذ سعدتُ بالتلمذة على فضيلة الشيخ سعيد الأعظمي حفظه الله فقرأت عليه كتبًا جليلة، كان لها بالغ الأثر في تكويني العلمي والأدبي، منها (الأدب العربي بين عرض ونقد) لشيخنا محمد الرابع الحسني الندوي، ومنتقى من (ديوان حسان بن ثابت رضي الله عنه)، وكتاب (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين) للإمام أبي الحسن علي الندوي رحمه الله. وقد نهلت من دروسه في الإنشاء والكتابة باللغة العربية، ونلت شرف الإجازة العامة منه في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة 1442هـ، وهي شهادة أعتز بها مدى الحياة.
وعرفت الشيخ –متّعه الله بالصحة والعافية– مثالًا للعالم الندوي الرباني، وقورًا في سمته، غيورًا على دينه، رزينًا في مظهره، متزنًا في قوله، مهيبًا في مجلسه، ذا شخصية قوية، وقلب كبير يحتضن طلابه، لا يأنف منهم، ولا يتعالَى عليهم. عرف بالاتباع الصادق، والنفرة من البدع والمحدثات، فكان نموذجًا للعالم السنيّ المخلص، وقد امتاز بثلاث خصال بارزة تُجسّد شخصيته العلمية والتربوية:
أولها: انضباطه الشديد ومواظبته المثالية، لا يخلّ بموعد، ولا يتهاون في النظام، حريص على أداء الصلوات في وقتها، ملتزم بتدريسه صيفًا وشتاء، في سكون الطقس وعواصفه، مما يضفي على مجلسه مهابة ورزانة.
وثانيها: براعة قلمه وبلاغة لسانه، فهو كاتب رشيق، وخطيب مؤثر، تنساب كلماته بلغة عربية فصيحة، خالية من اللحن والعجمة، حتى غدت ندوة العلماء بسحر بيانه محفلًا للفصاحة والبيان.
وثالثها: عنايته الخاصة بتلامذته، حيث كان يفتح لهم بيته بعد الدوام، يدرّسهم ويصحّح لغتهم وأداءهم، ويغرس فيهم حب الفصحى والاعتزاز بها، تأديبًا وتوجيهًا.
إن الكتاب الذي جرى الاحتفاء به يُعدّ بحقّ إضافة علمية وأدبية رفيعة المقام، ومرجعًا موسوعيًا جامعًا في بابه، يقع في خمسمائة وخمسين صفحة من القطع الكبير، وقد قسّمه المؤلف إلى ستة أبواب محكمة، تجمع بين حسن الترتيب، وغزارة المادة، ودقة التوثيق، وعمق التحليل،
وجاءت أبوابه كما يلي:
الباب الأول: عرضٌ بانوراميّ للغة العربية في الهند، منذ فجر الإسلام حتى العصر الحديث، بيّن فيه الكاتب كيف احتضنت الهند العربية لغةً وثقافةً ودينًا، وعبّر عن السياق الذي نشأ فيه العلامة سعيد الأعظمي.
الباب الثاني: سردٌ دقيق لسيرة الشيخ سعيد الأعظمي الذاتية، من مولده ونشأته، إلى تعليمه وشيوخه، وما طُبع به من خصال حميدة، وصفات علمية وروحية.
الباب الثالث: تناول جهود الشيخ التربوية والتعليمية، وأثره العميق في التوجيه والإصلاح، وحرصه على بناء الإنسان المتكامل علمًا وخلقًا وسلوكًا.
الباب الرابع: استعرض المؤلف نتاج الشيخ العلمي والأدبي، من مقالات وبحوث، ومحاضرات ودروس، ومؤلفات ورسائل، التي تُعد بحقّ ذخيرة فكرية قلّ نظيرها.
الباب الخامس: خصّصه المؤلف لجهود الشيخ في دعم اللغة العربية وآدابها، وإسهامه في بعث الحركة الأدبية في محيط ندوة العلماء، وخارجها، من خلال تدريسه، وقيادته الثقافية، وكتاباته الماتعة.
الباب السادس: تحليل دقيق لآثار الشيخ في النهضة اللغوية، ودوره الريادي في تعزيز مكانة العربية في الهند، وخاصة في مؤسسات التعليم الديني، ومجالات الإعلام والدعوة.
وقد تشرّف هذا الكتاب بمقدمة وازنة بقلم فضيلة الشيخ السيد بلال عبد الحي الحسني حفظه الله بيّن فيها أهمية هذا العمل، وضرورته، وقيمة الجهد الذي بذله المؤلف، فقال: “ونظرًا إلى هذه الخدمات الجليلة، الأدبية والدعوية، التي اضطلع بها شيخنا – حفظه الله – كانت الحاجة ماسّة إلى أن يُعنى بها دراسةً وتحقيقًا وتوثيقًا، فأسأل الله أن يجزي الأخ الفاضل، الدكتور محمد فرمان الندوي، خير الجزاء، فإنه اختار هذا الموضوع وهو أحقّ الناس به، لما كان له من ملازمة لشيخنا، وصحبة طويلة، ونهل من علمه، واستضاء بنور معرفته.”
ولا ريب أن هذا السفر النفيس يسدّ فراغًا واضحًا في المكتبة العربية والإسلامية، خاصة في مجال التراجم الحديثة لرجال الفكر والدعوة من شبه القارة الهندية، الذين لم ينالوا من التوثيق والبحث ما يليق بمقامهم، بالرغم من عطائهم الغزير وتأثيرهم الواسع، والكتاب لا يُعد مجرد ترجمة شخصية، بل هو في حقيقته دراسة شاملة عن مرحلة فكرية وأدبية مهمة في التاريخ الثقافي المعاصر للهند، وعن رجلٍ جمع الله له بين عمق الفكر، ورحابة القلب، وصدق الدعوة، وصفاء السريرة.
وأما المؤلف، الدكتور محمد فرمان الندوي حفظه الله فقد أبان عن مكانته البحثية والكتابية، ووفائه العلمي، فقدّم للقرّاء عملاً يزدان بالتحقيق والتدقيق، ويعكس سعة اطلاعه، ورسوخ قدمه في الأدب العربي، ومعرفته العميقة برجالات ندوة العلماء، وبخاصة شيخه العلامة سعيد الأعظمي، الذي لازمه طويلًا، وتعلّم منه ورافقه في ميادين العلم والدعوة.
ليس الكتاب مجرد دراسة أكاديمية جافة، بل هو عمل كتب بروح المحبة، وحرارة التلمذة، ونَفَس الوفاء، فكل صفحة منه تحمل صدق الشعور، ونبل الغاية، وإخلاص القلم. وإن من نعم الله على المؤلف، وعلى أهل ندوة العلماء، بل وعلى الأمة بأسرها، أن يخرج هذا الكتاب إلى النور، ليكون منارًا للباحثين، ودليلاً للمربين، وتذكرةً للمحبين.
لقد كان شيخنا سعيد الأعظمي حفظه الله ولا يزال من أعلام الدعوة والأدب في هذا العصر، ممن اجتمع فيهم الإخلاص للعلم، والغيرة على الدين، والحب العميق للغة القرآن. فهو من الخالدين بأثرهم، العاملين بصمت، الذين يُنيرون الدروب لمن جاء بعدهم.
نسأل الله أن يبارك في هذا الجهد المبارك، وأن يجعل هذا الكتاب في ميزان حسنات مؤلفه، وشيخه، ومن أعان على نشره، وأن يهيّئ له القبول والانتشار في ربوع العالم الإسلامي، وأن يُسهم في بعث الوعي بأهمية اللغة العربية، وسِيَرِ أعلامها، في عالم يعاني من فقر النماذج، وانبهار زائف بزخارف الحضارة المعاصرة.
جزى الله الدكتور محمد فرمان الندوي خير الجزاء، ويسَّر له المزيد من العطاء العلمي، وسدّد قلمه، وبارك في جهوده المباركة، وزاده توفيقًا وتسديدًا في خدمة العلم والأدب والدعوة، وأمدّه بالصحة والعافية، وأدام عليه نعمة التوفيق والإخلاص، ونفع به طلاب العلم والباحثين، كما نفع بسابق مؤلفاته ومقالاته، إنه أهل لذلك، وهو من خيرة من يحملون أمانة الكلمة، ويؤدونها بوعي وأدب وأصالة.