في كل عام حين تعلن نتائج الثانوية العامة تنهال على مسامعنا أرقام فلكية تثير الحيرة أكثر مما تبعث على الفخر طلاب ينالون تسعة وتسعون في المئة وثمانية وتسعون وسبعة وتسعون.. وكأن التفوق أصبح للجميع وكأن التميز قد أُعيد تعريفه ليتسع لكل من وضع اسمه في ورقة الإجابة
إنها نتائج تفرح الوجدان في ظاهرها لكنها في العمق تحزن كل غيور على التعليم وتقلق كل من يعرف معنى التحصيل الحقيقي ومعايير التقييم المنصفة في الحقيقة ما نراه اليوم ليس سوى نتاج سياسة تعليمية رخوة بل ومتهاوية سمحت بتسلل الزيف إلى عمق المنظومة التعليمية حتى أصبحت الامتحانات شكلاً من أشكال التسلية لا اختبارا لمستوى الفهم ولا ميدانا لتقييم القدرات العقلية والتحليلية للطلاب
من عاش أيام التعليم في الثمانينات والتسعينات يدرك جيدا كيف كانت هيبة الامتحان وقدسية الدفاتر وصرامة التصحيح لم يكن النجاح سهلاً ولم تكن الدرجة الكاملة تمنح بسهولة كانت الامتحانات عبارة عن ورقتين أو ثلاث تتخللها أسئلة إنشائية وتحليلية وتطبيقية تحتاج إلى تفكير وربط وفهم حقيقي للمنهج لا مجرد حفظ مكرر أو اختيار عشوائي بين خيارين
في ذلك الزمن كانت الإجابة تكتب بخط اليد في دفاتر مخصصة وكان المعلّم يدقق في كل كلمة يكتبها الطالب ولا يُمنح الدرجة إلا إذا استحقها لم تكن هناك أسئلة من نوع اختر الإجابة الصحيحة أو صح أم خطأ أو أكمل الفراغ بل كانت هناك مطالبات حقيقية بإنتاج معرفي وفكري ولذلك كانت شهادة الثانوية العامة في ذلك الزمن تعتبر جواز عبور مشرف لا مجرد ورقة عبور إلى مستقبل ضبابي
في العقود الأخيرة تفشى مرض التبسيط في التعليم فصارت الامتحانات نسخة مكررة من الملازم وتحولت من كونها معيارا للنجاح إلى وسيلة للهروب من الفشل المؤسسي لم يعد الهدف من الامتحان قياس فهم الطالب بل صار مجرد إجراء شكلي للعبور إلى المرحلة التالية
ففي ظل تراجع دور المعلم الحقيقي وغياب الرقابة الصارمة على التصحيح وتساهل وزارات التعليم مع المعايير التربوية صار الطالب ينجح وهو لا يفقه الكثير مما درس وصار الحصول على درجات مرتفعة لا يعني بالضرورة أنه قد فهم بل يعني أنه أتقن اللعبة
حين يحصل الآلاف من الطلاب على معدلات تتجاوز خمسة وتسعون بالمئة يصبح التمييز بلا معنى وتضيع الموهبة وسط الزحام فهل يعقل أن يكون كل هذا العدد من المتفوقين قد وصلوا إلى هذه الدرجات بمجهودهم الفردي؟ أم أن الخلل يكمن في سهولة الامتحانات وتراخي التصحيح وغياب المعايير الدقيقة؟
لقد تحولت هذه الدرجات إلى زينة فارغة لا تعكس بالضرورة ذكاء الطالب ولا اجتهاده بل تعكس ضعف النظام وسوء التخطيط وغياب الرؤية التعليمية العميقة
ما يجب أن ننتبه إليه هو أن جودة التعليم لا تقاس بالأرقام العالية بل بمستوى المخرجات العلمية وبما يملكه الطالب من قدرات حقيقية ومهارات تفكير وروح نقدية واستعداد لسوق العمل أما الأرقام التي توزع يمينا وشمالًا فلا قيمة لها إذا لم تكن ناتجة عن امتحانات عادلة وتقييم نزيه وتعليم جاد
إن ما نشهده اليوم هو تدمير تدريجي لمفهوم التعليم الحقيقي وما لم تتم مراجعة جادة وشاملة للمنظومة التعليمية بدءا من تصميم المناهج مرورا بطريقة التدريس ووصولًا إلى آلية الامتحانات فإننا سنظل ننتج متفوقين على الورق بينما الواقع يظهر خريجين عاجزين عن مواجهة الحياة أو المساهمة في بناء الوطن
ليست المشكلة في أن يحصل الطالب على تسعة وتسعون في المئة بل المشكلة في أن يحصل عليها دون أن يعرف الفرق بين الفاعل والمفعول أو لا يتقن أبجديات الرياضيات والعلوم هذا هو الخطر الحقيقي الذي ينبغي أن نتنبه له قبل فوات الأوان
التعليم ليس أداة لإرضاء الأسر ولا لإعطاء جرعات من الوهم لأبناء هذا الوطن بل هو أعظم مشروع وطني يجب أن يبنى على الصدق والعدل والرصانة فإذا فسد التعليم فسدت الأمة.