مقالات

محمد العنبري يكتب: مقياس الزمن

تتفاوت نظرة الناس إلى الزمن بين من يراه مجرد أرقام متتابعة ومن يدرك أنه مقياس للحياة نفسها لا يقاس بعدد السنين التي يقضيها الإنسان في هذا العالم بل بمقدار ما يتركه من أثر وما يقدمه من إسهامات ليست الحياة بطولها بل بعرضها كما قال ابن سينا فالعمر قد يكون قصيرا لكنه ممتد بالإنجازات وقد يكون طويلًا لكنه فارغ لا يتجاوز حدود التكرار الرتيب للأيام حتى يغدو صاحبه كأنه لم يعش إلا لحظة عابرة مجرد كائن يتحرك بين وجبتين ينام ويستيقظ دون أن يضيف شيئا للحياة أو يترك بصمة في ذاكرة الزمن.

كثيرون ولدوا وعاشوا وماتوا دون أن يلتفت إليهم أحد كأنهم لم يكونوا بينما هناك من عاشوا أعمارا قصيرة لكنهم استطاعوا أن يهزوا العالم بأفكارهم أن يغيروا مسار التاريخ أن يجعلوا أسماءهم خالدة في سجلات الإنسانية العالم لم يخلد أولئك الذين عاشوا طويلًا دون أثر بل خلد الذين قدموا شيئا ذا قيمة الذين كانوا نورا في عتمة الجهل الذين منحوا الآخرين معرفة فكرة اختراعا شعرا لوحة فنية صوتا ينادي بالحق موقفا نبيلا هؤلاء هم الذين يحسب لهم الزمن بطريقة مختلفة فلا يقاس بعقارب الساعة بل يقاس بما قدموه بما أحدثوه من فرق بما غيروه في مجرى الحياة.

يموتون لكنهم يظلون أحياء

ما قيمة السنوات إن كانت خالية من الإبداع؟ ما جدوى أن يعيش المرء مئة عام إذا كان وجوده مثل ظلٍ لا ملامح له؟ هناك من يموتون لكنهم يظلون أحياء في قلوب الناس وعقولهم وهناك من هم أحياء لكنهم موتى، لا ذكر لهم ولا قيمة الفرق بين الإنسان والآلة أن الآلة تُستهلك مع الزمن حتى تتوقف عن العمل أما الإنسان الحقيقي فهو من يصنع الزمن ولا يستهلكه من يجعل أيامه مفعمة بالإنتاج ومن يترك أثرا لا يمحى حتى بعد أن يغادر الدنيا.

قيمة الزمن

لو أن البشرية أدركت قيمة الزمن كما يجب لما أضاعته في الحروب والصراعات والتناحر ولما استهلكت قرونا في التسلح بدلا من البناء

ولما سفكت الدماء بلا طائل في حين كان بالإمكان أن تستثمر تلك السنوات في نشر العلم في تعزيز السلام في التخفيف من معاناة الناس بدلا من أن يكون العالم مسرحا للموت والدمار لو أن لحظة من الإدراك سادت بين زعماء هذا العالم لحظة واحدة يقررون فيها إيقاف آلة الحرب ويختارون فيها طريق السلم فإنها ستكون أعظم من قرون من الصراعات لأن الزمن حين يستثمر في الخير يصبح أكثر اتساعا أكثر عمقا أكثر أثرا بينما حين يهدر في الشر يصبح مجرد عبء ثقيل على كاهل التاريخ.

الإنسان العادي يقيس الزمن بساعاته وأيامه بينما العظماء يقيسونه بما صنعوه فيه ولهذا فإن أعظم لحظات الزمن ليست تلك التي تمر بل تلك التي تخلّد التي تترك علامة لا تُمحى التي تتحدث عنها الأجيال بعد رحيل أصحابها فمن يريد أن يعيش زمنه الحقيقي عليه ألا ينشغل بعدد السنوات التي يقضيها بل بما ينجزه خلالها فذلك وحده هو المقياس الحقيقي للزمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights