من أزقة المستشفى والممرات الصامتة تنبعث رائحة الحياة في أشد لحظاتها ألمًا…
حيث لا زينة ولا ضجيج لا ألوان ولا ضحكات بل سكون ثقيل يشبه الوداع وآهات تتناثر كأنها صلاة بلا كلمات…
هناك حيث يختلط الوجع بالصبر وترتجف القلوب في انتظار خبر أو نظرة تطمئن… هناك فقط تفهم المعنى الحقيقي لـ«همس العافية».
في كل زاوية من زوايا المشفى حكاية لم تكتمل ودمعة لم تنهمر بعد وأمل معلق على جهاز أو على جرعة دواء أو على لطف الله وحده.
تمر الممرضات والممرضون بين الغرف كنسائم طيبة يقتسمون صبرهم مع مرضى أنهكتهم الأوجاع يحملون وجوها مبتسمة تخفي خلفها تعبا لا يرى.
وفي عيون الأطباء حزم وقلق يحاولون رتقَ فجوات الألم وتضميد الجراح التي لا تنزف دما فقط بل تنهش في الروح أيضا.
تجلس في صالة الانتظار وترى الحياة تمشي ببطء تنظر في الوجوه المتعبة فتكتشف أن الألم قد وحدها… لم يعد الفارق بين غني وفقير أو كبير وصغير أو متعلم وأمي فالكل هنا متشابهون ينتظرون «لحظة فرج».. لحظة شفاء… لحظة عافية.
تسمع الأنين بين سرير وآخر كأن الزمن توقف ليصغي لهم وجوهٌ ذابلة تشبثت بآخر خيوط الأمل تقاوم الرحيل وتصلي للغد.
وهلوسات تعبر الهواء كأرواح تبحث عن جسد أقل وجعا…
تتكرر الهمسات بين جدران الغرفة «هل ستنجو هذه الليلة؟» «متى أخرج إلى بيتي؟» «هل سأتنفس طبيعيا من جديد؟»…
وهناك في ركن بعيد تهمس لك الأجهزة بنغمة متقطعة أنك لا تملك من أمرك شيئا
كأن كل ضوء يشتعل في جهاز مراقبة النبض يقول لك “العافية نعمة لا تشترى ولا تعوّض”.
كل صرخة ألم تسمعها تذكّرك أنك بخير وكل دعوة من مريض غريب تشعرك أن الشكر لا يجب أن يتأخر.
في المستشفى، تسقط أقنعة الغرور…
كل من ظن نفسه قويا يلين وكل من رأى نفسه مكتفيا يتوسل العافية وكل من ظن أن المال يحلّ كل شيء يجلس عاجزا أمام عجزه.
هنا فقط نكتشف هشاشتنا كبشر ونتذكر أننا نشفي إذا شاء الله ونضعف متى شاء ونموت في لحظة لا نملك ردها.
وحين تخرج لا تخرج كما دخلت…
تغادر المكان وقلبك مبلل بالحمد ونفسك أكثر خشوعا.
تغادر وأنت تحمل في داخلك وصية من صمت المستشفى “اشكر الله على العافية قبل أن تغيب” وتهمس لنفسك كل صباح
اللهم ارزقنا الشكر في الرخاء كما نحمدك في البلاء وارزقنا عافية لا تبدد وصحة لا تُسلب ونفسا مطمئنة ترضى وتسلم.
العافية ليست مجرد خلو الجسد من الألم…
العافية أن تستيقظ دون أن تحتاج جهازا يساعدك على التنفس…
أن تمشي دون أن تسندك عكازة أو شخص…
أن تنام دون أدوية وتضحك دون خوف…
العافية أن تملك جسدا يعمل بلا ضجيج وروحا مطمئنة تقول الحمد لله دائما وأبدا.
محمد العنبري اليمن