بين المقامة والرواية الحديثة، يقف اسم الأديب والصحفي محمد إبراهيم المويلحي (1858 – 1930م) علامة مضيئة في مسيرة النهضة الأدبية بمصر، وصاحب العمل الشهير «حديث عيسى بن هشام» الذي يُعَدّ من النصوص المؤسسة للرواية العربية الحديثة، إذ جمع فيه بين السرد القصصي واللغة الصحفية والفكاهة اللاذعة والنقد الاجتماعي والسياسي.
النشأة والتكوين
وُلد المويلحي في القاهرة عام 1858م في بيت أدب وصحافة؛ فأبوه هو الأديب والصحفي إبراهيم المويلحي، صاحب مجلة مصباح الشرق، وأحد رجال النهضة وصديق جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده.
نشأ محمد في هذه البيئة الفكرية الغنية، وتلقى علومه الأولى في الكتاتيب ثم في الأزهر الشريف، فنهل من علوم العربية والفقه والبلاغة، قبل أن ينخرط في العمل الصحفي مبكرًا إلى جوار والده، متأثرًا بأجواء الإصلاح الفكري والوطني.
بين الصحافة والأدب
التحق المويلحي بتحرير مصباح الشرق، ثم تولى إدارتها بعد وفاة أبيه سنة 1906م، وكرّس صفحاتها لمهاجمة الفساد الإداري والسياسي والاحتلال البريطاني، مستخدمًا أسلوبًا يجمع بين السخرية والجد.
تأثر بأفكار الأفغاني وعبده، وشارك في المعارك الفكرية ضد الجمود والتقليد، ودافع عن الحرية والإصلاح، كما كانت له مقالات أدبية واجتماعية لم تُجمع أغلبها في كتب.
حديث عيسى بن هشام.. الجسر إلى الرواية
يبقى «حديث عيسى بن هشام» تاج أعمال المويلحي وأشهرها. نُشر أول مرة في مقالات متتابعة بين عامي 1898 و1902م، ثم جُمعت في كتاب واحد.
الفكرة تقوم على حبكة مبتكرة: الكاتب يلتقي شخصية تاريخية من العصر المملوكي هي «عيسى بن هشام»، فيعود هذا الأخير إلى الحياة، ويبدأ رحلة مع الكاتب في شوارع القاهرة الحديثة، ليرى التحولات الكبرى بين ماضي مصر وحاضرها.
في هذا النص تتقاطع المقامة العربية مع الرواية الواقعية؛ فهو حوار ساخر يعرض مشاهد من المحاكم والمدارس والجيش والمجتمع، كاشفًا عورات البيروقراطية والفساد والاحتلال. وقد رآه النقاد الجسر الذي عبرت عليه الرواية العربية الحديثة، وواحدًا من النصوص المؤسسة لوعي السرد العربي.
أثره في النهضة الأدبية
يمثل المويلحي مرحلة انتقالية بالغة الأهمية؛ فهو لم يكن مجرد صحفي ناقد، بل مبدع مزج بين التراث العربي وأدوات السرد الحديثة. أثرى لغته بروح المقامة والبلاغة، لكنه حمّلها مشكلات عصره، فجاء نصه قريبًا من الناس، ناقدًا لحياتهم اليومية.
وقد ألهم عمله كتّابًا جاؤوا بعده مثل محمد حسين هيكل في روايته زينب (1914)، وجرجي زيدان في رواياته التاريخية، بل واعتبره النقاد امتدادًا للخط الذي سيوصِل إلى نجيب محفوظ والرواية العربية في القرن العشرين.
وفاته وإرثه
رحل محمد المويلحي عن الدنيا سنة 1930م، تاركًا إرثًا كبيرًا رغم محدودية إنتاجه، فقد ظل اسمه مقرونًا بـ«حديث عيسى بن هشام»، ذلك العمل الذي يُقرأ اليوم بوصفه شهادة ساخرة على مصر زمن الاحتلال، وبذرة أولى في تربة الرواية العربية.
اقتباسات دالة
من أشهر مقولاته في «حديث عيسى بن هشام»:
«إن الناس في كل زمان هم الناس، وإنما تختلف وجوه الظلم باختلاف العصور.»
«العلم نور، ولكن في بلادنا من يتخذ النور ستارًا للظلمة.»