محمد جلال القصاص يكتب: تحالف النصارى والأقليات في واقعنا المعاصر
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
مع الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي انتشر الأقليات من النصارى والطوائف في نواحيها (الثقافة، والاقتصاد، والسياسة).. فعّلَهم الاستعمار الغربي واتكئ عليهم في إحداث تحولات جذرية في الأمة الإسلامية.. بمعنى أن حضور النصارى لم يقتصر على التنصير المباشر (كجوزيف قزي [أبو موسى الحريري] وزكريا بطرس، والذين من قبلهم). بل جل فعلهم في الداخل الإسلامي.. يتحدثون من الداخل.. يقدمون قراءة نقدية للإسلام من داخله.. أو: يطوّرون “التراث” من منظورات غربية وشرقية!!
وبعد إعادة النظر مرة بعد مرة في مخرجات هؤلاء نستطيع أن نقول أن عامة المذاهب الفكرية المعاصرة مصدرها النصارى أولًا ثم تعاون معهم فيها أهل الطوائف، ثم جاءهم نفر من السمّاعين لهم (المأثرين بخطابهم)، ولا زال فعل هؤلاء مستمرًا إلى اليوم.. لا زال هؤلاء يعملون بجد على تحريف الكلم عن مواضعه- كما كان أجدادهم-.. يحاولون دمج الشريعة في المذاهب الفكرية المعاصرة.. لازال هؤلاء الأكثر أثرًا في عقل الأمة، بفعل الدعم المادي والإعلامي الذي يقدم لهم، فالقوة قوة أدوات، والمكانة بالمكان.
ومن أوضح الأمثلة المعاصرة النصراني الماركسي «عزمي بشارة» والعلوي «وجيه كَوْثَراني». والحديث هنا عن «كوثراني» هذا.
من مواليد (1941م)؛ وحاصل على دكتوراة من السوربون ودكتوراة من جامعة نصرانية (جامعة القديس يوسف) في لبنان. وترأس أكبر الأكاديميات المعنية بـ«البحث العلمي»: في «مركز دراسات الوحدة العربية» وهو أحد أهم مراكز البحث في العالم العربي قبل ظهور عزمي بشارة؛ ثم جلبه «عزمي» إلى «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» وقدّمه على غيره.
يهتم «كوثراني» بدراسة «تاريخ الاجتماع»، أو «اجتماع التاريخ»، في الدول الإسلامية، ويتمحور حول مقولة رئيسية وهي «هشاشة مؤسسة الخلافة»، يزعم أن الخلافة انتهت بنهاية الراشدين!! وأن الحكم بعدهم لم يكن إلا حكمًا عاديًا (ملكًا جبريًا)، وأن الحكم العثماني أخذ لقب الخلافة متأخرًا جدًا، وبالتالي لا مجال للحديث عن الحكم الإسلامي!!
ماذا يفعل؟!
كالذين علّموه من النصارى في السوربون و«القديس يوسف» حينًا يكتم الحق، وحينًا يلبسه بالباطل كما قال الله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (آل عمران: 71).
وهذه بعض النقاط في مناقشة مقولته (هشاشة مؤسسة الخلافة):
أولًا: المسميات تأتي لاحقًا، فبنوا أمية لم يسموا حكمهم «الخلافة الأموية» ولا «الدولة الأموية» ولم يفعل ذلك مَن بعدهم بما فيهم العثمانيون.. هذه المسميات جاءت لاحقًا. وهذا طبعي ويكاد يكون مضطردًا.. عندنا وعند غيرنا.
وإن غياب المسمى لا يعني غياب حقيقة الشيء، فحين حذف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصف الرسالة، في صلح الحديبية، لم يعن هذا زوال ماهية الرسالة عنه، صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: هشاشة مؤسسة الخلافة في التاريخ الإسلامي لشيء آخر يعرفه «كوثراني» ويكتمه، وهذا الشيء هو الذي ميّز النموذج الإسلامي عن غيره، وهو أن حجم السلطة (الخلافة) في الإسلام محدود جدًا، والجزء الأكبر في النموذج الإسلامي أخذه المجتمع.. الأفراد، فالإسلام مكّن الأفراد من كل شيء تقريبًا، وقلل جدًا من حجم السلطة، وهذا مشروح بالتفصيل في أطروحة البروفيسور جميل أكبر.
ولم تستطع السلطة (مؤسسة الخلافة) التوغل على الأمة حتى في أشد مراحل ضعف الأمة، وذلك أن السلطات التي تجمعت في يد أكبر خليفة مستبد أقل بكثير من أصغر مستبد يحكم أصغر دولة الآن، وهذا الفهم ذكره بالنص أحد أبرز الكارهين للدين والمتدينين من المعاصرين وهو “برنارد لويس” في حوار تلفزيوني منشور على اليوتيوب.
ثالثًا: يحاول كوثراني القول بأن هشاشة مؤسسة الخلافة يعني غياب الحكم الإسلامي. وغير صحيح، وهو من تلبيس الحق بالباطل. وذلك أن هشاشة مؤسسة السلطة أحد مظاهر الحكم الإسلامي، ونستطيع التعبير عن هذا المعنى بصيغة أخرى، وهي تمكين الفرد.. تمكين المجتمع.. أو: تحرير الفرد من تسلط أصحاب المال والنفوذ.. تحرير الفرد من استعباد غيره من بني آدم. تمامًا كما قال «ربعي بن عامر» وهو يشرح رسالة الإسلام للفُرس يوم القادسية: “الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
والتلبيس (الإفك) الذي يمارسه كوثراني يتمثل في الحديث عن السلطة (الخلافة) دون الحديث عن المجتمع.. في القول بهشاشة السلطة دون القول بقوة المجتمع وتمكن الفرد من كل ما يستطيع أن يفعله ما لم يضر بغيره.. بمعنى حرية تامة لا يصدها إلا الضرر بالغير والتعدي على محارم الله. وكوثراني متخصص في تاريخ الاجتماع ولذا يصعب أن نتقبل قوله بحسن نية.
رابعًا: في ذات المشهد الذي يحضر فيه كوثراني وقومه يحضر أهل الوعظ.. نعم أعني هؤلاء الطيبين الذين يعظون الناس ويذكرونهم بالله. فملخص الوعظ أن الفرد العادي هو السبب في البلاء الذي نزل به لأنه لا يذكر الله، ولأنه لا يستغفر ويتوب ويلتزم بالشعائر.. لأنه يستجيب للشبهات المنتشرة في كل مكان. والحقيقة أن هذه من الأسباب، ومن الأسباب اللاحقة وليست الأسباب الأصيلة. فلو أن الفرد لم يحرم من حقوقه.. لو أنه أخذ ذات الإمكانات التي أخذها الإنسان الأول (السلف الصالح) الذي يدعوننا للتشبه به والسير على دربه، لعاش عزيزًا واستطاع أن يعبد الله ويعمر الأرض.
محمد جلال القصاص
رجب 1445هـ