محمد شعبان أيوب يكتب: ابن حزم.. وابن النغريلة
كتب أحد يهود الأندلس واسمه ابن النغريلة -وقد استعمله بعض ملوك الطوائف في غرناطة كاتبا فوزيرا ثم قائدا للجيش في بعض الأوقات- كتب يقدح في القرآن الكريم، ويبين أنه كتاب تتعارض آياته.
فردّ عليه العلامة ابن حزم برسالة محقته محقا، وكشفت عن جهله بالعربية وأساليبها بل بالفهم الواضح البادي من آيات القرآن الكريم.
ولكن ابن حزم جعل في صدر ردّه هجوما على ملوك الطوائف وأمثالهم في زمنه ممن سمحوا على حد وصفه لهذا «المائق» «الزنديق» وممن «تقلَّى قلبُه للعداوة للإسلام وأهله، وذوبت كبده ببغضه الرسول صلى الله عليه وسلم، مِن مُتدهّرة الزنادقة المستسّرين بأذل الملل، وأرذل النحل من اليهود».
هاجم ابن حزم ملوك الطوائف قبل أن يفكك كلام ابن النغريلة المتهافت الساقط، بل لم يقف عند تفكيك كلامه حتى كشف له في العديد من المواضع التناقض الظاهر في العهد القديم، وبيان مدى التحريف الذي أصابها بالدليل والبرهان القاطع، وتحدّاه أن يجد جوابا كما فعل هو معه.
أقول هاجم ابن حزم ملوك الطوائف وأهل العقل والدين ممن سمحوا لهذا الخسيس وأمثاله أن يتجرأوا على الملة الإسلامية في أعز مقدّساتها وهو القرآن الكريم دون أن يتحرك لهم ساكن، أو تتمعّر وجوههم لدينهم، وأن همهم كان على الدنيا والكراسي والمتع الزائلة:
يقول: «اللهم إنا نشكو إليك تشاغُل أهل الممالك مِن أهل ملتنا بدنياهم عن إقامة دينهم، وبعمارة قصور يتركونها عما قريب عن عمارة شريعتهم اللازمة لهم في معادهم ودار قرارهم، وبجمع أموال ربما كانت سببُا إلى انقراض أعمارهم، وعونا لأعدائهم عليهم، وعن حياطة ملتهم بها عزوا في عاجلتهم وبها يرجون الفوز في آجلتهم، حتى استشرف (استغل وتفرغ) لذلك أهل القِلة والذمة، وانطلقت ألسنة أهل الكفر والشرك بما لو حقق النظر أرباب الدنيا لاهتموا بذلك ضعف همنا؛ لأنهم مشاركون لنا فيما يلزم الجميع من الامتعاض للديانة الزهراء، والحمية للملة الغراء، ثم هم متردون بما يؤول إليه إهمال هذا الحال من فساد سياستهم، والقدح في رياستهم، فللأسباب أسباب، وللمداخل إلى البلاء أبواب، والله اعلم بالصواب. وقد قال علي بن العباس:
لا تحقرن سُبيبًا … كم جرّ أمراً سُبيب»
ثم راح ينقضُ ابن النغريلة ويقطّعه إربا، فإذا أردت مزيدَ بيان فارجع إلى رسالته.
وابن حزم بهذا النقد يُعدّ من أهم من ناظروا أهل الأديان والعقائد الأخرى، وكشفوا ضعف حجتهم، وقلة بضاعتهم، وتناقض مللهم، وكل من أراد أن يخوض في الجدل مع أهل العقائد الأخرى عليه أن يرجع لابن حزم في سلوكه ومنهجه الاستنباطي، وعقله الألمعي، وشجاعته وعدم خشيته في الله لومة لائم.
لكن يبقى الرجلُ عجيبا في بيان كشف أسباب الاضمحلال، وتجرؤ أهل الملل الأخرى على سيادة الإسلام في الأندلس دون خوف من كبير أو صغير .. ولهذا نحب ابن حزم ونقدّره.