في كل عام، يخرج ملايين المسلمين من شتى بقاع الأرض إلى مكة المكرمة، ملبين نداء الحج، متجردين من كل انتماء سوى انتمائهم إلى الله، موحدين في اللباس والحركة والغاية. لكنّ هذا المشهد العظيم، الذي يفترض أن يكون فرصة للتلاقي الإسلامي الكبير، بات معزولًا عن الواقع، مفصولًا عن قضايا الأمة، ممنوعًا فيه حتى أبسط أشكال التعبير عن التضامن، كرفع علم فلسطين مثلًا.
التاريخ الإسلامي يخبرنا أن الحج لم يكن يومًا طقسًا تعبديًا صرفًا. بل إن النبي محمد ﷺ استخدم موسم الحج لبناء التحالفات وتأسيس دولته. بيعة العقبة الأولى والثانية، التي مهّدت للهجرة والتمكين، وقعتا خلال الحج. وكان العرب، في الجاهلية والإسلام، يعتبرون موسم الحج مناسبة سنوية للقاء، ولتبادل الأخبار، وعقد التحالفات، وحلّ النزاعات.
أما اليوم، فقد تمّ تفريغ الحج من هذا البعد الجماعي. تحوّل إلى شعائر محدودة، محاطة بقيود تنظيمية وأمنية صارمة. لا يُسمح للحجاج أن يتحدثوا عن قضاياهم، ولا أن يُعبّروا عن مواقفهم، ولا حتى أن يرفعوا علمًا، ولو كان لبلد محتل كفلسطين. وتحت شعار “عدم تسييس الحج”، تمّت مصادرة المعنى الأعمق لهذه الشعيرة الكبرى.
لكن ما الذي خسره المسلمون جرّاء ذلك؟ أولًا، فقدوا فرصة اللقاء السنوي المفتوح الذي كانت الأمة تتشاور فيه وتتناقش حول حاضرها ومستقبلها. ثانيًا، خسروا فضاء التضامن الرمزي الذي تحتاجه الشعوب المضطهدة، من فلسطين إلى كشمير. ثالثًا، تآكل المعنى الحضاري للحج، الذي كان يربط بين العبادة والموقف، بين الإيمان والفعل في التاريخ.
والأخطر من كل هذا، أن هذا التحويل للحج إلى طقس فردي صامت، يخدم مشروعًا سياسيًا مضادًا لوحدة الأمة. إذ لم يتم “تحييد” الحج فعلًا، بل تمت السيطرة عليه وتوجيهه ضمن رؤية سياسية واحدة، تمنع كل ما يعارضها أو يتجاوزها.
ليس المقصود أن يتحول الحج إلى مظاهرة أو مؤتمر سياسي، بل أن يُستعاد كفضاء جامع، يمكن للمسلمين أن يعبّروا فيه عن انتمائهم المشترك، وعن قضاياهم المصيرية، وعلى رأسها قضية فلسطين، التي هي رمز لمظلومية مستمرة، ولموقف لا ينبغي للأمة أن تنساه حتى في لحظة وقوفها بين يدي الله.
إن الأمة التي تُمنع من الكلام حتى في الحج، هي أمة يتم تدريبها على النسيان والخضوع. بينما الحج، كما كان في أصله، فعل يقظة، وشهادة على وحدة المصير. ولذلك، فإن استعادة البعد الجماعي للحج ليس ترفًا، بل ضرورة لاستعادة الوعي والكرامة.