مقالات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: أسبوعان في ظلال ضيافة الرحمان (1)

إذا كان هناك من يعتز بأنه كان ضيفا على ملك أو رئيس أو كبير من الكبراء.. فليعتز بذلك من يعتز…

ولكن المسلم الذي يتشرف‌ بزيارة مكة المكرمة يعتز بكونه ضيفا على رب العالمين وأكرم الأكرمين…فزوار مكة هم في الحقيقة ضيوف الرحمان.. ويا لشرف من يحظى بضيافة الرب الأكرم.. وكفى بذلك شرفا وعزا…!

لعل بعض القراء الكرام يكونون قد علموا بأن الله سبحانه قد شرفني أخيرا – والحمد لله – بأداء العمرة، فقد كنت توجهت – مع أم حسان – إلى مكة المكرمة يوم السبت: ١٤ / ٨ / ١٤٤٥ھ – ٢٤/ ٢/ ٢٠٢٤م.

وودًعَنا على مطار لكناؤ ابني الأصغر سعدان الندوي وبعض الأقرباء، وكان الإقلاع الساعة الثانية عشرة ظهرا، وقُرأت -لدى الإقلاع- الآية الكريمة: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} مع أدعية السفر، ورددها المسافرون أيضا مع القارئ، وهكذا بدأنا السفر المبارك مستبشرين متفائلين بأن السفر سيتم في سهولة وعافية إن شاء الله تعالى، وهكذا كان.. فقد تم السفر -والحمد لله- في أتم ما يكون من الراحة والعافية، فما شعرنا -خلال الرحلة- بأي نوع من المشقة أو التعب، بل كنا نشعر – ونحن في الطائرة – كأننا جالسون في صالة كبيرة على الأرض.. لا في الجو.. فسبحان من وهب الإنسان هذا العقل الذي اخترع به هذا الجهاز الحديدي الذي يطير في الجو وهو يحمل في داخله مئات من المسافرين وآلافا من الأطنان من الأمتعة..

كان المفروض أن يقرب الإنسان من الله بقدر ما يكتشف من الأسرار والرموز المبثوثة في الأنفس والآفاق، وبقدر ما يتطور ويترقى.. ولكنه -للأسف- على العكس.. ظل يبعد من منهج الله ويتخبط وينحرف عن الصراط المستقيم.. حتى وصل اليوم إلى قمة الانحراف والبعد عن طريق الله..

فياويلتاه…!

وكما قال بعض الحكماء: إن الإنسان الذي استطاع أن يحلق في الجو كالطائر، ويسبح في الماء كالسمك، لم يستطع -للأسف- أن يمشي كالإنسان على وجه الأرض.

كانت الرحلة هذه ضمن مجموعة من مجموعات العمرة، الحقيقة أن سفر العمرة مع المجموعة يريح الإنسان ويكفيه هموم السفر، فالمجموعة هي التي تتولى -بتكلفة مناسبة- تأمين السكن والوجبات والمواصلات، ومندوبوها لا يقصرون في تقديم الخدمات، ويوجهون المسافرين بما يجب القيام به من الأمور والاحتياطات.

صلينا الظهر ثم العصر أيضا في الطائرة، لأنها كانت تأخرت ساعة، فكانت وصلت إلى جدة الساعة الخامسة والنصف مساء.

هذا.. وكنا أحرمنا في الطائرة قبل الوصول إلى جدة بساعتين.

بعد اكتمال الإجراءات الروتينية في المطار، خرجنا فوجدنا مندوبَين من المجموعة يرحبان بنا، ويصحباننا إلى الفندق، الذي كان على بعد عشر دقائق من الحرم مشيا على الأقدام، فحمدنا الله تعالى على ذلك، وشكرنا للمسؤولين عن المجموعة أن أنزلونا في فندق قريب من الحرم، كان على شارع الهجرة، واسمه: «فندق سرايا التاج»، وبعد وصولنا إلى الفندق بدقائق فقط، جاؤوا إلينا يدعوننا إلى تناول العشاء، فتعشينا، وكان الطعام لذيذا شهيًا حسب ذوقنا.

بعد تناول العشاء، قالوا سنتحرك بعد نصف ساعة لأداء العمرة، فاستعِدوا لذلك، فاستعددنا، ونزلنا إلى الردهة (lobby) من الفندق، حيث تجمع جميع أعضاء الرحلة من مجموعتنا، ثم تحركنا نحو الحرم تحت إشراف معلم العمرة، الذي كان شابا عالما هنديا، عارفا بالمسائل، ولكن لما وصلنا إلى الحرم تفرق عدد كبير من أعضاء الرحلة، ولم يستطيعوا مصاحبة المعلم للزحام الشديد.

لم أكن حديث العهد بالحرم، ولا كنت أدخله لأول مرة في حياتي، فصلتي بالحرم تعود إلى ما قبل أكثر من أربعين سنة، حيث كنت ذهبت في بعثة طلابية من ندوة العلماء إلى المدينة المنورة سنة ١٤٠٢ھ – ١٩٨٢م، وبعد ذلك أيضا ظللت أتشرف بزيارة الحرمين الشريفين من حين لآخر، ولكن لما دخلت الحرم هذه المرة بعد ١٢ سنة، وجدت تطورا مذهلا، وتوسعة عظيمة شاملة، فلم أكد أعثر على ذلك الحرم الذي كنت أعرفه، فحينما دخلت الحرم شعرت وكأنني أدخله لأول مرة، فالحرم من كثرة ما عُمل فيه – في الأعوام الأخيرة – من أعمال التطوير والتوسعة والتجديد -التي لا نظير لها في الماضي- يبدو كأنه بني كله حديثا، فحرم زمننا لم يعد له أثر.. أو قل: التوسعات الجديدة امتزجت بحرم زمننا امتزاجا بديعا، وخالطته لحما ودما، وانسجمت (بل في تعبير أصح: اتحدت) معه -شكلا وروحا، وجمالا وجلالا، ومحافظة على جميع الخصائص السابقة من الروعة والفخامة والجدة والأناقة- كأروع وأكمل وأحسن ما يكون الانسجام.

أما الزحام فلا تسأل عنه، فلم يكن أقل من موسم الحج، بل لعله كان أكثر.. وكان المطاف كله -على سعته- مكتظا بالمعتمرين بشكل لا يوصف، والطائف ما كان يمشي بنفسه.. بل كان التدافع من الخلف واليمين واليسار يجعله يتحرك ويمشي ببطء، أما الوصول إلى الحجر الأسود، فكان أمرا فوق طاقتنا نحن الضعاف، فاكتفينا بالاستلام من بعد.

أما السعي بين الصفا والمروة، فكان أقل ازدحاما من الطواف حول الكعبة.

على كل.. فرغنا من العمرة في نحو أربع ساعات، فقد كنا بدأنا الطواف حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا، وانتهينا من السعي الساعة الثالثة صباحًا، وقد كنا قبل ذلك نفرغ من العمرة – في غير موسم الحج – في مدة لا تتجاوز ساعة ونصف.

هنا أجد نفسي مدفوعا إلى ذكر ما لا بد من ذكره، فلا أكاد أخفيه…، بل أعتبر إخفاءه لونا من ألوان الخيانة الدينية أو مما يعارض النصح وبيانَ الحق، وهو أن أشد ما أزعجني بل آلمني وجرح شعوري الديني حرصُ الكثيرين من الطائفين بالبيت العتيق على تصوير أنفسهم (selfie) وهم يطوفون حول الكعبة المشرفة.. أو على تصوير الكعبة نفسها، أو التقاط الصور للطائفين، وكأنهم يحبون أن يحتفظوا بهذه اللحظات التاريخية عبر تصويرها بالجوال..

يا أيها الطائفون بالبيت العتيق! إن عملكم هذا – تصوير عملية الطواف – لا يتفق وحرمة الكعبة وقدسيتها وعظمتها..

ليس هذا مقام الترفيه أو الترويح أو التفرج… بل إنما هو مقام الهيبة والرهبة، والخشوع والتضرع بأقصى درجاته، وطلبٍ المغفرة، وشحن بطارية القلب بنفحات الإيمان، مقام العائذ بالله من النار.

إنه مقام تتجلى فيه الأنوار الإلهية بما لا يتجلى مثلها في غيره، ويتصل بالعرش اتصالا خاصا لا يحظى بمثله غيره من الأمكنة.

 فالذي يشتغل بالتصوير لا يمكن أن يكون قلبه مستحضرا لجلال المكان وعظمته، وإن أدنى غفلة في هذا المكان الأطهر الأقدس قد يؤدي إلى إحباط الأجر وإضاعة الثواب..

فالله.. الله.. في الكعبة.. لا تنتهكوا حرمتها.. فتحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون..

أنتم ما تأتون إلى هذا البيت العتيق لتشتغلوا وتلهوا بالتصوير.. بل لتعظموه وتقدسوه، وتستغفروا ربكم وتسترحموه، ولتهللوا ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون {ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب}

تجب مراعاة حرمة هذا المكان الذي يُعتبر – بلا خلاف – أطهر وأقدس مكان في الدنيا، والتزامُ الأدب الواجب – الذي يستحقه المكان – كأشد ما يكون الالتزام.

الإنسان حينما يكون في مجلس عظيم من عظماء الدنيا، يراعي آداب مجلسه، ولا يشتغل بالتصوير أو ما شابهه من الأعمال بحضرته، فبيت الله أحق بأن يهتم بمراعاة حقوقه وآدابه أضعافا مضاعفة من غيره من أمكنة الأدب والوقار.

يا ليت الطائفين بالبيت العتيق ينتبهون لذلك…!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى