محمد نعمان الدين الندوي يكتب: أسبوعان في ظلال ضيافة الرحمان (2)
الثلاثاء: ١٧ / ٨/ ١٤٤٥ھ – ٢٧/ ٢/ ٢٠٢٤م
في منزل الدكتور محمد القرشي
بعد التشرف بأداء العمرة، كان أول ما يهمني أن أنتهز فرصة تواجدي في بلاد الحرمين الشريفين، فأحاول مقابلة المشايخ والعلماء ممن تربطني بهم صلة التعارف والتآلف والتواصل، و من طليعتهم صديقنا الفاضل الكريم فضيلة الشيخ الدكتور محمد القرشي (أستاذ كلية القرآن الكريم، وعميد القبول والتسجيل بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة سابقا) الذي كنت تعرفت إليه حينما زار الجامعة الإسلامية دار العلوم حيدر آباد ١٤٣١، ثم ١٤٣٣ھ للمشاركة في بعض مؤتمراتها، و كانت مفاجأة سارة حينما علمت أنه -أيضا- خريج كلية القرآن الكريم، التي درست فيها، وكان تخرجه بعدي بسنة، حيث كان تخرجي ١٤٠٥، وتخرجه ١٤٠٦ھ، وما كنا تعارَفْنا أيام الدراسة، فكان التعرف إليه مكسبا علميا ودينيا كبيرا، وإضافة قيمة إلى قائمة الخلصاء والخلان الكرام، الذين أعتز بحبهم ومودتهم والتواصل معهم، والحقيقة أن العثور على الإخوان الأوفياء الأصفياء نعمة كبيرة في هذا الزمن الذي غاض فيه الوفاء، وتلاشت الصداقة الصادقة، وقل الحب الخالص، وندرت المروءة .
فمنذ أن سعدت بالتعرف إلى فضيلة الشيخ القرشي، وجدته دمث الخلق، لطيف المعشر، حسن المحاضرة، كريم النفس، طيب الخصال، حميد السيرة، هينا لينا، أليفا مألوفا، شغوفا بالعلم، محبا لأهله، ناصحا للإخوة والأصدقاء، مما جعله من أعز الإخوة عليّ وأحبهم إليّ.. فما زادتنا الأيام إلا حبا لبعضنا الآخر، أدام الله هذا الحب خالصا لوجهه الكريم.
لما صح عزمي على السفر إلى الحرمين الشريفين لأداء العمرة وزيارة مدينة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، أرسلت إلى الدكتور القرشي رسالة -عبر الواتساب- أخبره فيها باعتزامي للعمرة، فرد على رسالتي ردًا جميلًا كريمًا، مرحبًا بقدومي لبلاد الحرمين الشريفين، وقال:
«شيخنا إذا وصلتم مكة فآذنوني، لأني متواجد في مكة هذه الأيام، وأريد أن تشرفونا في منزلنا هنا».
فلما فرغت من أداء العمرة، تواصلت مع الدكتور القرشي وأخبرته بوصولي -مع السلامة- إلى مكة المكرمة، فأبدى بالغ سروره للخبر قائلا: الحمد لله على سلامة الوصول، وتكرم فراعى تعبنا، فقال: «لعلي أترككم اليوم ترتاحون.. وغدا بمشيئة الله تعالى ألتقيكم في الحرم وتشرفونا في منزلنا بعد صلاة العشاء أنتم والأهل ومن تحبون.. إذا ناسب الوقت أصلكم بعد الصلاة ونأتي سوياً إلى البيت.. أو حددوا الوقت المناسب لكم ونسعد بكم».
ثم تحدد يوم الثلاثاء (١٧ شعبان).. ما بعد العشاء موعدا للذهاب إلى منزل الدكتور القرشي.
بعد العشاء اتصل بي الدكتور هاتفيا، وقال: الطريق إلى شارع الهجرة – الذي كان فيه الفندق – مغلق، فتعال إلى كبرى المسفلة، فقلت: لا حرج.. فهذا المكان على غلوة من الفندق، وسأصل إليكم بعد دقائق، فقصدنا -أنا وأم حسان- المكان الذي كان فيه الدكتور، فما إن رآني حتي أقبل علي مبتسما مرحبا.. فتعانقنا وتبادلنا كلمات التحية والترحيب والدعاء والحب والمودة، ثم جلسنا في السيارة متوجهين إلى منزل الدكتور القرشي، وفي الطريق تجاذبنا أطراف الحديث، الذي تطرق إلى الظروف التي يعيشها المسلمون في جميع أنحاء العالم الإسلامي، وتفاءلنا بأنه سينبلج الصبح المشرق إن شاء الله، فالليل الغاسق يتبعه الفجر المضيء، وإنها غمرات سينجلين.. وإن مع العسر يسرا.. والمحن تزول وإن طالت، ولا داعي لليأس والقنوط، والعالم الإسلامي قد مر بظروف أشد صعوبة، ولكنه خرج منها ظافرا منتصرا غالبا على المتاعب والمصاعب، فالمحن سنة الله.. تليها فتوحات وانتصارات … فالظروف الحاضرة القاسية ستزول بإذن الله.
وفي الطريق تواصل الدكتور مع بعض أهل بيته، يخبره بأنه سيصل قريبا إن شاء الله، ويوجهه – في غاية من اللطف واللين – بضرورة كون الأمور جاهزة..
ولعل الذي اتصل به كان ابن الدكتور، والحقيقة أن أسلوب مخاطبة الدكتور ابنَه أعجبني وراعني كثيرا، وراقني جدا، فقد كان أسلوبا حلوا لينا، أسلوبا ممزوجا بالحب والاحترام والعطف والشفقة، ومراعاة كاملة دقيقة لمشاعر الابن المخاطَب.. لا تُشمُّ منه رائحة الأمر فضلا عن الإكراه.. فقلت في نفسي: هذا هو الخلق العربي الكريم الأصيل النبيل.. وهذه هي التربية الإسلامية الأصيلة الحكيمة .. وهكذا ينبغي أن يخاطب الآباءُ أبناءهم.. فإن هذا الأسلوب الحلو الأخوي الجميل، المضمخ بريا الحب والحنان يجعل الأبناء يتلقون أوامر آبائهم عن رضا وحب وطواعية.. ويسرعون في تنفيذها عن رغبة داخلية صادقة.. فالرفق واللين والحب ما دخل شيئا إلا زانه، والشدة والعنف ما دخل شيئا إلا شانه.
وبعد قليل وصلنا إلى بيت الدكتور القرشي العامر، الذي كان في منطقة هادئة بعيدة عن المدينة، لا تَرى فيها العماراتِ الضخمة المتلاصقة المتداخلة، والأبنية الشامخة العالية التي تناطح السحاب، فلما دخلنا البيت، عرّفَني الدكتور بشاب وقور تبدو على وجهه سيما الصلاح والتدين والوقار، وملامح الفضل والنبوغ قائلا: هذا ابني الدكتور خالد أبو عبد العزيز.
فقلت: ما شاء الله.. الولد سر أبيه.. بارك الله في ابنكم وأقر به عيونكم، وزاده علما وفضلا وصلاحا وتقى..
لقد سررت برؤية هذا الشاب -ابن محمد القرشي- الفاضل الورع التقي النقي سرورا عظيما، والحقيقة أنه -بعد توفيق الله تعالى- نتيجة تربية والده الجليل، الذي -لا شك أنه- يكون قد سهر وتعب كثيرا في تحليته بحلية العلم والخلق، وإيصاله إلى هذه المكانة المتميزة من الكفاءة العلمية، حتى حاز أعلى درجات العلم: «الدكتوراة».
صنائع فاق صانعها ففاقت
وغرس طاب غارسه فطابا
وأكبر الظن أن الذي كان اتصل به الدكتور القرشي في الطريق، يكون هذا الابن العزيز.
وأروع ما أعجبني مناقشة جادة رزينة – كانت تتخلل المجلس بين الوالد العالم وابنه الفاضل – في موضوعات علمية في أسلوب لطيف وحوار حانٍ ممتع.. في نفس الأسلوب الذي كان تكلم به الوالد القرشي – في الطريق إلى البيت – مع ابنه هذا … أسلوب الحب والعطف والحنان الممزوج بالاحترام والإكرام.. طبقا للحديث الشريف: «أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم» (سنن ابن ماجة).
الحقيقة أنني تأثرت كثيرا بما رأيت من الحب والاحترام المتبادلين بين الوالد وولده.
وقلت في نفسي: يا ليت يعم مثل هذا النمط من التعامل المشرف المغبوط بين جميع الآباء والأولاد.. فهو لجدير بأن يحتذى ويكون مثالا للآباء خاصة.
ففي كثير من المجتمعات.. الأب يكون بعيدا كل البعد من الشفقة والتعامل الرحيم مع الأولاد، بل لعله يظن أن الرأفة معهم تفسدهم وتجرؤهم.. فلذا يتظاهر بالشدة والقسوة أمام الأولاد، فإذا دخل البيت.. دخل عبوسا قمطريرا.. وكأنه المستبد الآمر الناهي.. حتى يحتفظ بهيبته ورهبته في قلوب الأولاد.. ويعتبر الملاطفة والمباسطة مع الأولاد خلاف الحكمة.
بل على العكس.. معاملة الآباء أولادهم في حب وعطف ورحمة ومراعاةٍ لمشاعرهم الناعمة اللطيفة.. تجعلهم يقابلون حبا بحب، وعطفا بأدب، ورحمة باحترام.. وأمرا بطاعة..
وهذا هو الأدب الإسلامي في تربية الأولاد، وهي الأسوة الحسنة النبوية في التعامل مع الصغار.
على كل.. استمرت هذه الجلسة المفيدة المشرّفة المباركة نحو ساعتين أو أكثر.. استفدت فيها الكثير الكثير من الخلق العربي، والكرم العربي، والنبل العربي، والوفاء العربي و … و ….
والحقيقة أن ما لقيته من حسن الضيافة وكرم الوفادة من الدكتور القرشي، ذكرني بما كنت قرأته في الكتب من الأبيات والقصص عن قرى العرب، فمن ذلك قول الشاعر:
لا عيب فيهم غير أن ضيوفهم
تعاب بنسيان الأحبة والوطن
والعربي يكرم الضيف أعظم ما يكون الإكرام، ويعامله بكل ما يشف عن الحب والاحترام والملاطفة، مما قد يبلغ إلى درجة ليست فوقها درجة، يعبر عنها قول الشاعر:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا
وما لي شيمة سواها تشبه العبدا
وكان العربي لم يكن يكتفي بما يستطيع من الإعداد لمأدبة غنية بأطيب الطعام وأهنأ الشراب لضيفه، بل كان -إلى ذلك- يتجاذب أطراف الحديث ويضاحكه لكي يُنسي منه الشعور بالغربة والبعد عن الوطن.
ومن هنا قال الجاحظ: «العرب تجعل الحديث والتبسط والتأنيس والتلقي بالبشر من حقوق القرى، ومن تمام الإكرام، وقالوا: من تمام الضيافة: الطلاقة عند أول وهلة، وإطالة الحديث عند المؤاكلة».
والحديث عن قرى العرب ذو شجون وطويل طويل … لا تستوعبه هذه المقالة الصغيرة، وأهل العلم والأدب لعلى علم بذلك.
وكان حسن الختام لهذه المجلس: مائدة فاخرة عربية دسمة …
أقول بدون مجاملة.. أن طريقة الأكل العربي تعجبني كثيرا.. مظهرا ومخبرا..
فهذه السفرة المستديرة.. وعليها الطبق وعليه ما عليه.. والجالسون حولها.. كل ذلك يروقني جدا جدا..
فهنا تتجلى المساواة الإسلامية بأبهى صورها وأروع أشكالها.. فلا فرق بين الآكلين.. كبيرهم وصغيرهم.. فلا تمييز ولا تفريق.. يأكلون من طبق واحد.. وربما يشربون من إناء واحد كذلك.. ويؤْثِر بعضهم بعضا في تقديم أشهى أجزاء اللحم أو الطعام إلى أقربه.
والحقيقة أن هذه الطريقة الطعامية العربية تزيد الطعام بركة، والآكلين حبا وتقاربا وتآلفا..
وبعد ما فرغنا من الطعام، شربنا القهوة العربية، وقال الدكتور: القهوة هذه ممزوجة بالزنجبيل الهندي، وأضاف: نحن هنا نحب المنتجات الهندية.. وخاصة في مجال المأكولات.. فنؤثرها على غيرها …
وبعد القهوة شربنا الشاي بالنعناع المدني..
والشاي بالنعناع المدني أحب أنواع الشاي إليّ.. وأُكرِم به ضيوفي أيضا.. وقد اشتريت كمية كبيرة – في رحلتي الأخيرة هذه – من النعناع الأخضر، ثم جففته هناك، كما اشتريت – أيضا – النعناع المجفف …
وبعد الأكل والشرب.. استأذنت الدكتور القرشي، {فإذا طعمتم فانتشروا} فكان كل من الوالد والابن حريصا على توديعي إلى الفندق، فحسمت الأمر راجيا من الوالد الكريم أن يستريح.. وقد كان تكلف مرافقتي من الفندق إلى البيت، وأسعد بمرافقة الابن الشاب عائدا إلى الفندق.. ولقي رجائي الاستجابةَ الكريمة من كليهما… فجزاهما الله خيرا.
وودعنا الدكتورُ بحفاوة وحرارة وحب وكرم، على أن نتلاقى قريبا إن شاء الله..
وعدت من منزل صديقنا القرشي.. وقلبي يحمل من أجمل المشاعر وأحر العواطف وأحلى الذكريات، ما يحتاج تسطيره إلى رسالة كاملة …
ولا يسعني تجاه ما شملني به سعادة الدكتور محمد القرشي وابنه الواعد المرجو الأخ الكريم خالد من الحب والكرم والقرى العربي الأصيل إلا أن أدعو الله تعالى أن يجزيهما والأهل خير الجزاء، ويبارك فيهم جميعا، ويمتعهم دائما بالصحة والعافية، ويديم عليهم ظلال الأمن والرفاهية والرخاء.
إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(لكناؤ، الهند / السبت: 5 من رمضان المبارك ١٤٤٥ھ ١٦ من مارس ٢٠٢٤م )