الأثنين سبتمبر 30, 2024
مقالات

من وحي الأيام

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: أسبوعان في ظلال ضيافة الرحمان (3)

الأربعاء: ١٨/ ٨/ ١٤٤٥ھ – ٢٨/ ٢/ ٢٠٢٤م

مع أنجال الشيخ عمر بن محمد السبيل رحمهما الله إمام الحرم المكي الشريف

لقد كان اتصل حبل الصداقة بيني وبين الشيخ عمر بن محمد السبيل (رحمهما الله) في أواخر الثمانينيات الميلادية، يوم جاء إلى حيدر آباد يرافق والده الجليل سماحة الشيخ محمد بن عبد الله السبيل -رحمه الله- الذي كان مثَّل خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله في ندوة دولية عن التعليم والدعوة، أقامتها الجامعة الإسلامية دار العلوم/ حيدر آباد في ١٩٨٧م.

وبهذه المناسبة تعارفنا (والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) وجرت بيننا لقاءات قصيرة، وأحاديث ودية مؤنسة على هامش اجتماعات الندوة، وكان سألني الفقيد – رحمه الله – عن مكتبات حيدر آباد القديمة، ومدى إمكانية الاستفادة من مخطوطاتها، الأمر الذي يدل على ذوقه العلمي، وحرصه الكبير على النهل من العلم من شتى مناهله ومصادره.

لقد كان الفقيد رحمه الله ترك أثرا طيبا في نفس كل من رآه ولقيه من مواطني حيدر آباد أو ضيوف الندوة، فقد وجدوه شابًا صالحّا حيِيًا خجولًا غاض الطرف، يزينه الحلم والجد والرزانة والوقار، ونور التقى يعلو وجهه، فإذا مر الراحل الكريم بمكان أو جلس في المنصة – في اجتماعات الندوة – بجانب والده الجليل، قال الناس بعضهم لبعض -وهم يشيرون إلى الفقيد-: انظروا إليه.. كأنه ملك نزل من السماء.

وبعد انتهاء الندوة رجع الفقيد الكريم مع والده الجليل إلى مكة المكرمة، وانقطعت أخباره عنا، ولكن ذكراه ظلت حية تعطر قلوبنا ومجالسنا، وإذا بنا – بعد مضي عدة أعوام من زيارته لـ حيد رآباد – فوجئنا ببشرى تعيينه إماما وخطيبا للمسجد الحرام، فبعثت له رسالة لتهنئته بهذا الشرف العظيم، ويحلو لي أن أطلع القراء الكرام على تلك الرسالة:

«فضيلة الأخ الكريم الشيخ عمر بن محمد السبيل حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 وبعد..

فقد حملت الصحف الواردة من الرحاب الطاهرة نبأ اختياركم إماما وخطيبا للحرم المكي الشريف، فهنيئا لكم هذا الشرف العظيم، شرف الإمامة والخطابة في بيت الله الحرام.

لقد كان هذا الاختيار موفقا جدا، فإن هذا الخلق الفاضل المثالي الكريم، والتضلع من العلم، والتفقه في الدين، وهذه الحياة الطيبة التي نشأت في رحاب التقوى والصلاح.. كل ذلك كان جديرا بتأهيلكم لهذا المنصب الجليل الذي حظيتم به بحق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

يا أخي عمر! لا إخالك بحاجة الى التعريف بشخصي المتواضع، فقد سمعنا منذ صبانا -وصدقت ذلك التجاربُ والشواهد- أن العربي لا ينسى أبدأ أحدا لقيه مهما طال به الزمان، ودارت الأيام، أو بعدت الدار وشط المزار!

فارجع قليلا -يا أخي- إلى الماضي حينما شرف والدك الجليل حيدر آباد بزيارته الكريمة للمشاركة في الندوة العالمية للتعليم والدعوة، التي أقامتها الجامعة، وكنت مرافقا لسماحة والدك في تلك الزيارة.

ففي تلك المناسبة التأريخية السارة، تأسست العلاقة والصداقة والأخوة بيننا على تقوى من الله، وقد توسمت آنذاك، وتوسم معي كل من رآكم أو لقيكم في وجهكم النوراني الباش مخايل النبوغ والعظمة، وملامح العراقة والأصالة، وتنبأ الكثيرون فقالوا -وهم يشيرون إلى فضيلتكم- إن هذا الشاب الصالح سيكون له شأن مثل والده! وها هو الزمان يصدق ذلك!

فحياك الله يا عمر! يا سليل الأكرمين، حياك الله متربعا على عرش من الحب والمودة والإخلاص من جميع الذين يعرفونك، محاطا برعاية الله، مباركا في أعمالك، موفقا بالنجاح في أداء مهامك الجليلة الجديدة في صحة وعافية.

وأخيرا -لا آخرا- لي منك رجاء خاص، وهو أن لا تنساني في دعواتك الخاصة في ظلال الكعبة المقدسة في أوقاتك الخاصة وسهراتك ونجواتك لربك الكريم.

 أخوك المحب

 محمد نعمان الدين الندوي».

أذكر أني تلقيت من الأخ الراحل -رحمه الله- ردا كريما (ضاع مني للأسف)، زادني قربا منه، وحبا له، وتأثرا بنبله وكرم منبته، والشيء من معدنه لا يستغرب.

وقد ظلت هذه العلاقة تزداد مع الأيام صفاء وقوة، وبقيت سليمة طاهرة من أية أغراض وشوائب تعكر خلوصها وطيبها وصدقها:

وما أنا بالباغي على الحب رشوة

ضعيف هوى يبغى عليه ثواب

واستمرت سلسلة المراسلات بيننا، يطمئن بها بعضنا على صحة الآخر، ويطلع على أحواله ونشاطاته.

وكانت معظم هذه الرسائل محفوظة عندي، وقد وفقني الله تعالى لنشرها في رسالة سميتها:

خطابات فقيد الحرم الشيخ الدكتور عمر بن محمد السبيل إمام وخطيب الحرم المكي الشريف

فهذه هي قصة صلتي – في إيجاز شديد – بصديقي العزيز الشيخ عمر رحمه الله.

 * * *

ولما وصلت في رحلتي الأخيرة هذه إلى مكة المكرمة، كان من أعظم أمانيّ أن ألتقي بأهل بيت صديقي السبيل رحمه الله، وما كنت أعلم عن أبنائه شيئا، فأبديت رغبتي الشديدة لبعض الإخوة في التقاء من تربطه به -رحمه الله- صلة.. فقال: له أبناء.. فقلت: يا ليت تبحث لي عن رقم جوال أحدهم، فقال: سأبذل قصارى جهدي في ذلك.. وبعد قليل أرسل إلى رقم ابنه الأخ الكريم عبد العزيز، فوجهت -على الفور- رسالة إليه، أُعَرِّفُه بشخصي المتواضع، معبرا عن رغبتي الشديدة في لقائه هو وجميع إخوانه، فرد على رسالتي ردًا كريما جاء فيه:

«وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أهلا وسهلا.. فضيلة الشيخ الجليل! قد عرفناكم من خلال مراسلاتكم مع الوالد رحمه الله التي ما زلنا نحتفظ بها إلى الآن، ونحن في شوق إلى رؤياكم والجلوس معكم، وأود شيخنا الكريم أن أعرف جدولكم في مكة وإلى متى أنتم ماكثون فيها لأجل أن أنسق مع إخوتي موعدا نتشرف فيه بلقياكم، وجزاكم الله خيرا».

ثم تقرر الموعد ظهر الثلاثاء ١٨ شعبان للقاء أنجال الشيخ عمر السبيل رحمه الله.

وأرسلوا بعد صلاة الظهر السيارة إلى الفندق، وكان السائق -فيما أظن- أخا سودانيا مؤدبا، وفي الطريق كان الأخ يرشد إلى أهم وأبرز ما نمر به من الأحياء والمعالم والمساجد، فأشار إلى مسجد كبير مررنا بقربه، وقال: هذا المسجد يسمى: مسجد الراجحي، وهو أكبر مسجد في مكة بعد الحرم، وفي الطريق كنت أشعر بسرور يغمر جوانحي كلها، حيث أقر عينيٌ بعد لحظات برؤية أفلاذ كبد صديقي الراحل الأعز إلى الأحب إلي.. وبعد نحو عشرين دقيقة وصلنا إلى بيت أنجال الصديق، وقبل عدة أمتار من البيت وقع نظري على الأنجال الكرام الذين كانوا ينتظرونني عند الباب الرئيسي للباب، فلما نزلت من السيار.. فكأنني لم أكن أمام البشر.. بل كنت أمام الملائكة.. وجوه نيرة مشرقة بالإيمان.. ملامح تشف عن الطهر والبراءة -كبراءة الأطفال- وابتسامة خفيفة طيبة تداعب وجوه الجميع..

وتعانقنا كلنا بحرارة وبحفاوة.. وكأن كل واحد منا كان يشتاق إلى لقاء الآخر.

أو كأننا كنا نتلاقى بعد فراق طويل.. فكنا نحمد الله أن جمعنا ولم شملنا بعد التشتت..

وكان أكبرهم الأخ أنس عرّف بنفسه وبباقي الإخوة الموجودين آنذاك (عبد العزيز ومحمد -فيما أظن-).

وبعد تبادل كلمات الحب والتحية والحفاوة.. تقدمنا إلى صالة الجلوس، وعند أحد مداخل البيت وجدنا نوعا من النباتات من العشب أو الشوك الصغير، فأشار الأخ أنس إلى الحديث الشريف: «لا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها» أي عملا بهذا الحديث الشريف لا نقطعها.. إلى أن وصلنا إلى الصالة، وأجلسوني في مكان لم أكن أهلا له.. ولكن -تفضلا منهم وتكرما- أكرموني غاية الإكرام.. مراعاة للعلاقة التي تربطني بوالدهم الجليل رحمه الله..

إن هذا السلوك المشرف الجميل ذكرني بما كنت قرأته في بعض الكتب، أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ترجل عن دابته، وأركب عليها بدويا جلفا، فقيل له: يرحمك الله يا أبا عبد الرحمن: تترجل عن دابتك، وتحمل عليها هذا الجلف؟ فقال: إنه ود عمر.. يعني أنه صديق أبيه عمر..

فقلت في نفسي: هذا التكريم منهم.. من برهم بوالدهم..

وإلا.. فهذا النكرة.. العجمي المغمور.. أنى له أن يحظى بهذا التقدير والتكريم؟

الأنجال الكرام كلهم على قمة من الأدب والسمو الخلقي.. وكلهم متميزون علما وفضلا ونبلا.. ويصعب التمييز أو التفضيل بينهم، وكأنهم صيغوا في قالب واحد من الخَلق والخُلق، والتعليم والتربية.. فهم يتشابهون -أكمل وأحسن ما يكون التشابه- ملامحَ وجوه، ونبرات صوت، وجمالَ خُلق، وحسنَ سيرة.. بحيث إذا رأى الإنسان أحدا منهم، عرف بقيتهم.. فتبارك الله أحسن الخالقين.

ومثلهم كمثل أبناء تلك المرأة العربية -الكاملين أدبا ومروءة وشرفا- التي كانت تفخر بهم جميعا، وسئلت ذات مرة عن أفضلهم.. فأجابت: «هم كالحلقة المفرغ.. لا يدري أين طرفاها». (١)

وعلى كل واحد منهم يصدق: «هذا الشبل من ذاك الأسد».

وكل واحد منهم قد جمع طهارة المروءة وأريحية الفتوة ونبل الخلق وشرف التقوى.

ولاحظت أن أكبرهم الأخ الدكتور أنس هو الذي كان يتكلم -في أدب ووقار-، وبقيتهم كانوا ساكتين صامتين مصغين لما يدور من الحديث بين أخيهم الأكبر وبين الزائر كاتب السطور..

طبعا.. جرى في اللقاء ذكر الصديق الراحل الشيخ عمر الوالد، ووالد الوالد: جد الإخوة الشيخ محمد السبيل رحمه الله..

لقد سعدت بزيارة الشيخ محمد عدة مرات، مرة في حيدر آباد، وأخرى في مدراس بالهند، ثم أكثر من مرة في مكتبه برئاسة شؤون الحرمين، كان رحمه الله مثالا للعالم العامل التقي، كلما لقيته زدت حبا له، وتأثرا بعلمه وخلقه.

كان بسيطا في حياته على شاكلة عباد الله الصالحين في كل عصر ومصر..

وكان نعم المعلم.. ونعم المربي.. ونعم الإنسان.. ونعم الإمام.. كان له أسلوب خاص في التلاوة.. صوت حلو جميل.. ولهجة ساذجة مؤثرة.. لا تكلف فيها ولا تصنع.. تنفذ في القلوب وتروق السامعين..

كان هذا اللقاء أول لقاء بيني وبين الإخوة أنجال الصديق عمر رحمه الله، ولكن في هذا اللقاء الأول كان يشعر كل واحد منا كأننا متعارفون متآلفون منذ قديم.. هذا من بركة الصلة بوالد الإخوة وجدهم رحمهما الله

وبعد نحو نصف ساعة.. دعوني إلى الغداء، فتوجهنا إلى صالة أخرى.. وكان الأكل على الأرض.. وهذه الطريقة هي المريحة وهي السنة أيضا..

وكان الطعام طعام المآدب العربية المألوف: الرز باللحم مع لواحقه ولوازمه …

ولكنهم زادوا: الإدام مع الخبز.. ولعل هذا كان مراعاة لزائرهم.. فجزاهم الله خيرا.

بعد الغداء شربنا أنواعا من الشاي..

ثم أهدوا إلى كتبا نفيسة، فشكرت لهم على هذه الهدايا العلمية الغالية من آثار قلم الصديق عمر أو مما كُتب في ترجمته رحمه الله..

ثم دوروا علينا العود والبخور.. فاستنشقنا الرائحة الزكية المريحة التي زادت المكان عبقا وأريجا..

وبعد ذلك رأيت من المناسب أن أستأذنهم.. وذلك لأنني كنت قرأت في ذكريات علي الطنطاوي: «إذا دار العود فلا قعود»..

فاستأذنت رغما عني.. لأنني كنت أحب أن يطول الجلوس مع الإخوة/ الأبناء..

استأذنت قائلا: أريد أن أصلي العصر في الحرم..

فأذنوا لي جزاهم الله خيرا..

وودعوني كما استقبلوني.. بحفاوة وكرم ونبل..

ورجعت مغتبطا حزينا في وقت واحد..

مغتبطا بلقائهم، وحزينا على فراقهم..

وكنت أشعر لدى توديعهم بما يشعر به الوالد لدى توديع أبنائه، وبعد رجوعي إلى الفندق أرسلت إليهم رسالة، أودعتها شكري لما غمروني به من الحب والكرم وحسن الضيافة، فرد عليها الأخ أنس برد نبيل كريم:

«وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

شرفتمونا فضيلة الشيخ الجليل بزيارتكم، وبما أتحفتمونا به من الرسائل التي كانت بينكم وبين الوالد رحمه الله.

وكنتم مثالا للوفاء النادر والحب الصادق، وظهرت لنا شمائل أخلاقكم عيانا، بعد أن كنا نلحظها كتابا، ولمسنا منكم لطف اللقاء، وبشاشة الوجه، وطيب الحديث، وزدتم ذلك بلطف رسالتكم، ونبل مشاعركم.

ولم نقم إلا بما يمليه الواجب، ويقتضيه البر بالوالد، ولكم فضل السبق، وكريم المبادرة.

وقلمكم -أدامه الله- عربي فصيح القول، عذب الأسلوب، بديع البيان، خالٍ من العجمة، سالم من القصور.

كتب الله أجركم، وأعلى مقامكم، ونفع بكم دينه، لا زلتم في كنف الله وحفظه» ۔

نضرهم الله وبارك فيهم، ورفع قدرهم، وبلغهم من المكانة والمنزلة ما بلغه أباهم وجدهم العظيمين، ونفع بهم الأمة والدين والوطن.

الهوامش:

(١) تريد أن تقول: إن أبناءها لتناسب أصولهم وفروعهم، وتساويهم في الشرف، يمتنع تعيين بعضهم فاضلا، وبعضهم أفضل منه، كما أن الحلقة المفرغة لتناسب أجزائها وتساويها يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا).

(لكناؤ، الهند – الأربعاء: ٩ رمضان الفضيل ١٤٤٥ھ – ٢٠ مارس ٢٠٢٤م)

Please follow and like us:
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب