مقالات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: أسبوعان في ظلال ضيافة الرحمان (5)

الثلاثاء: ٢٤/ ٨/ ١٤٤٥ھ – ٥ /٣/ ٢٠٢٤م

لقاء خفيف ماتع:

من طليعة من تربطني بهم صلات الود والصداقة من علماء المملكة ومشايخها: فضيلة الشيخ الدكتور فهد بن سعد الجهني أستاذ الدراسات العليا بجامعة الطائف، وهو من الفقهاء ورجال التعليم والتربية والدعوة في المملكة، ولما وصلت في ٢٤ فبراير إلى مكة المكرمة، تواصلت معه مخبرا إياه بوجودي في مكة، فرحب بقدومي، ودعاني إلى الغداء يوم السبت: ٢١ شعبان في بيته بالطائف، فقبلت الدعوة شاكرا لفضيلته..

ولكن صادف ذلك اليومَ موعدُ الزيارة لمعالم مكة، فاعتذرت للدكتور الجهني عن الصعود إلى الطائف في ذلك اليوم، فتفضل مشكورا بالقبول للعذر، ولعله كان يرجو أن أزوره بعد ذلك.. وقد كنت أنا أيضا حريصا على لقائه لأواصر أخوية وعلمية بيني وبينه، ولكن ضيق الوقت لم يمكنّي من الذهاب إلى الطائف، فلما جاء يوم الوداع (الثلاثاء: ٢٤ شعبان) لمغادرة مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، تواصلت معه، وأخبرته بأنني سأغادر اليوم إلى المدينة، فأبدى نوعا من العتاب قائلا: ” ما بالكم زهدتم في زيارتنا.. ولم توفوا بوعدكم لنا أن تزورونا “.

والعتاب في الحقيقة نبض المحبة الصادقة وصابون القلب وروح الوداعة..

فالعتاب على قدر المحبة:

على قدر الهوى يأتي العتاب

ويبقى الود ما بقي العتاب

والحب يصلح بالعتاب..

فلما وصلت إلى رسالته الصوتية، التي تنم عن عتابه الأخوي الحلو.. زدت ثقة بحبه وصدقه ووفائه، واعتززت بهذا الحب الصادق والعتاب اللذيذ، فرددت عليه برسالة، استميحه فيها العفو والعذر.. وأشكر له حبه الصادق.. وقلت: لا والله! ما زهدت في زيارتكم، بل زيارتكم -بعد التشرف بأداء العمرة- كانت على رأس الأهداف التي كنت أتطلع إلى تحقيقها، فزيارة المشايخ والعلماء والأحباب كانت من أهم مقاصد الرحلة، وأنتم من أعز من أعرفه هنا من أهل العلم والمودة علينا وأحبهم إلينا.

ولم نتمكن من التشرف بمقابلتكم رغم حرصنا الشديد على ذلك..

وحاولت تخفيف عتابه.. فاقتنع -والحمد لله- بأن عدم زيارتي له لم يكن عن تقصير.. أو زهد في لقائه..

وهنا.. تجلى النبل الجهني.. والأصالة العربية والمروءة العربية في أروع صورها.. والعرب أمة النبل والوفاء والكرم والمروءة والصفاء…

فلما اقتنع الدكتور الجهني بكلامي، بشرني – على الفور – بأنه قادم الآن إلى مكة للقائي.. وخرج لساعته متوجها إليها.. وبعد نحو ساعة ونصف وصل الدكتور، وكان بيننا لقاء خفيف ماتع في السيارة، لم يتجاوز دقائق، واستأذنت الدكتور.. مع شوقي إلى أن يكون اللقاء أوسع.. لأننا بعد صلاة الظهر مباشرة ننزل العفش.. ونتحرك الساعة الثانية والنصف إلى المدينة المنورة..

فودع كلانا الآخر على أمل أن نتلاقى قريبا إن شاء الله..

 * * *

لعلي لا أبعد عن الموضوع كثيرا… إذا رجعت قليلا إلى الماضي.. إلى ما قبل عقد من الزمن.. حينما شرف الدكتور فهد بن سعد الجهني الجامعة الإسلامية دار العلوم / حيدر آباد بزيارته، فكلفني الشيخ محمد رحيم الدين الأنصاري رحمه الله رئيس الجامعة بإعداد كلمة التحية والترحيب بمقدمه، فحاولت أن أخوض تجربة جديدة، وهي أنني كتبت «مقامة ترحيبية» بزيارته، وقدمتها في حفل استقباله وأنا بين الخوف والرجاء.. والخوف كان غالبا… لأن التجربة كانت جديدة.. ولكن نجحت -والحمد لله- وحازت إعجاب الحاضرين، ولما انتهيت من إلقائها، خاطبني الدكتور قائلا: لقد أتعبت من بعدك…

طبعا.. هذه الكلمة تدل على تواضعه ونبله وشرفه، ولكنها – في نفس الوقت – لون من ألوان التشجيع والإشادة بكاتب عجمي في محاولته العربية الأدبية…

ولعله لا يكون مما يشق على القارئ أن أورد فيما يلي مقتطفات من المقامة الترحيبية بالدكتور فهد حفظه الله:

«ضيفنا الموقر! ترفل الجامعة اليوم في حلة من البهجة والسرور، والسعادة والحبور، فهي بزيارتكم فخورة، وبقدومكم مسرورة، وأساتذتها بلقائكم معتزون، وطلابها برؤيتكم مبتهجون.

وذلك بسبب وحيد، وأمر فريد، خصكم الله به ذو العرش المجيد، وهوأنكم تمثلون تلك البقاع الطاهرة، والأراضي النيرة، التي علّمت العالم عقيدة التوحيد، وعرّفت الدنيا بمنهج الإسلام الفريد، الذي نلتقي اليوم على صعيده الجليل، وفي ظله الظليل، بفضل الله الجزيل».

«نحن يا ضيفنا الأحب! لا ننتمي إلى الشرق أو الغرب، بل إلى رب المشارق والمغارب، ولا إلى اليمين واليسار، بل إلى الله القهار، الذي خلق الليل والنهار، وفجر البحار، وأجرى الأنهار، ولا نعتز بالانتماء إلى الرومان واليونان، أو اليابان وإيران، ذات الملالي أصحاب المتعة والفساد وتحريف القرآن، أو أميركا ذات الجبروت والطغيان، فانتماؤنا ليس لتصورات البشر أو البلدان، وإنما – قبل كل شيء – للعقيدة وللإيمان، فنحن عبيد الرحمان، الذي أنزل القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وبعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم، رسولا للإنس والجان، فهدانا إلى طريق الحق والرضوان».

«وإن خزانتنا – يا ضيفنا – ميراث النبي المختار، و(تعس عبد الدينار.. كما قال سيد الأبرار)، وسيوفنا أقلامنا، وصحفنا أعلامنا، وبيوتنا المساجد، وقلاعنا المدارس، وحليتنا الخلق والندى، وركبنا ركب الهدى، وقائدنا وقدوتنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسلاحنا الأمضى الدعاء وكفى، وعصى تسيارنا التوكل على الله، وزادنا التقى وخوف الله، {وخير الزاد التقوى } وهدفنا الحصول على الرضا، ونهجنا النهج المرتضى.

وطريقتنا محمدية أحمدية، ودعوتنا ربانية سلفية، ونسبتنا مكية مدنية، لا شرقية ولا غربية.

ومنهجنا منهج وسط، لا غلو فيه ولا شطط، عملا بقول أسد الله الغالب، علي بن أبي طالب: «عليكم بالنمط الأوسط، يلحق به التالي، ويرجع إليه الغالي».

فنحن أصحاب الوسطية والاعتدال، من غير غلو ولا إخلال، ولا جمود ولا تزمت ولا نقصان، أو تقليد كتقليد العميان بلا استناد إلى دليل أو برهان، من الحديث والقرآن، فهما مصدرا التشريع الأساسيان للإنس والجان، وكل يؤخذ من قوله ويرد، ويقبل ويجحد، إلا المعصوم الأكرم، صاحب القبر الأعظم، صلى الله عليه وسلم».

«ومنهجنا في الأصول والكليات، والمبادئ والغايات، الثبات كالجبال الراسيات، والصلابة كالحديد، الذي فيه بأس شديد، فلا تفريط ولا مساومة، ولا مزايدة ولا مناقصة، ولا تنازل عن أي شيء من الثوابت والكليات، مهما كانت النتائج والتحديات.

أما في الوسائل والفروع والجزئيات، والأخذ والاقتباس والاستفادة من جديد الاكتشافات، وحديث الأدوات والاختراعات، فالسماحة والمرونة، والترحيب والسهولة، بل نعومة كنعومة الحرير، ورقة كالنسيم العليل في الصباح الجميل، فالحكمة ضالتنا، نحن أحق بها أينما وجدنا، صادرين في ذلك عن إيماننا بسماحة ديننا، وصلاحيته، بل ريادته لكل عصر ومكان، مهما تطور العلم وتغير الزمان، مع الحرص الشديد -دائما وأبدا- على المحافظة على جوهر الإسلام الفريد، وشعاره السديد، ومؤكدين -في نفس الوقت- على أنه لا يصلح آخر أمة الإسلام، إلا ما أصلحها في عصر خير الأنام، وما تبعه من عصور الأئمة الأعلام، من الاعتصام بحبل الله المتين، كما كان في عصر السابقين».

«نحبكم.. لأنكم -معشر العرب- ذوو الفضل الأكبر علينا، والإحسان الأوفر إلينا، وحب المتفضل ليس بشيء عجيب، ولا أمر غريب، فهو أمر طبعي، وشيء واقعي، جبلت عليه الفطر السليمة، ويعد من القيم الكريمة، فعن طريق آبائكم وأجدادكم الغر الميامين، وصل إلينا هذا الدين، الذي عرّفنا برب العالمين، وسيد المرسلين، النبي الأمين».

«أدام الله سعادتك، يا ضيفنا «فهد» المبارك، وحفظك في حلك وترحالك، بين اهلك وأحبابك، برا وبحرا وجوا، سفرا وإقامة وحضرا.

وفي آخر الكلام نحييكم ونرحب بكم مرة أخرى أيها الضيف الهمام، راجين لكم طيب المقام، والعودة في عافية وسلام إلى وطنكم دار الإسلام، ثم الحضور إلينا مرة أخرى في قريب الأيام، بتقدير العزيز العلام».

نكتفي بهذه النبذة المنتقاة من المقامة، ومعذرة إذا طال الكلام، والسلام ورحمة الله على أخينا الفاضل الدكتور فهد وجميع القراء الكرام! (١)

الهوامش:

(١) لحديث: الثلاثاء ٢٤ شعبان بقية إن شاء الله.

(الثلاثاء: ١٥ رمضان المبارك ١٤٤٥ھ – ٢٦ مارس ٢٠٢٤م)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى