مقالات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: أسبوعان في ظلال ضيافة الرحمان (6)

الثلاثاء: 24/ 8/ 1445ھ – 5 /3/ 2024م

من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة:

اليوم ينتابني شعوران متناقضان.. شعور الحزن وشعور السرور…

أما الحزن فلمغادرة أحب البقاع إلى الله وإلى حبيبه صلى الله عليه وسلم..

والرسول بنفسه كان يتحسر ويتأسف على تركها.. ويقول – وهو يخاطب بلده الحبيب: مكة – «إنك لأحب البلاد إلي». وكأنه -بل فعلا- كان يقول: لو لا الظروف.. لما هجرت مكة إلى بلد آخر…

والواقع أن قلب أي مسلم لا يطيب بمغادرة هذا البلد الأمين الآمَن الأسلم.. ولا يفارقها إلا على مضض وتألم وحسرة..

إن الذي لم يتشرف بزيارة مكة، لا يمكن لأي قلم مهما كان مبدعا، ولأي لسان مهما كان ذلقا.. أن يصف له -للذي لم تقدر له زيارة مكة- مكة ببهائها ورونقها، وجلالها وقدسيتها، مكة التي يرى فيها الإنسان -بعين حسه- الأنوار والبركات تمطر من السماء.. مكة التي يستوي فيها الليل والنهار… فلا ترى فيها أي أثر من الليل.. سواء كنتَ في أوله أو وسطه أو آخره، فالزوار والمعتمرون يتساقطون عليها آناء الليل وأطراف النهار تساقط الفراش على النور.. والشوارع مكتظة بالغادين والرائحين…

إن هذه الحركة الدافقة بالحياة، وهذا البحر البشري الزخار الذي ليس له حد ولا قرار.. وهذه الأنوار الساطعة البديعة، وهذه الآهات والدعوات والتضرعات، و.. و… لا ترى في كل ذلك أي فتور فضلا عن توقف في أي لحظة من اللحظات من الليل والنهار..

والحقيقة أن معنى: «الحياة» الحقيقي لا يتصور ولا يُفهم بكماله وشموله وسعته إلا في مكة…

فالحياة في مكة على قمتها وأوجها ونشاطها وازدهارها في كل حين وآن.. والذي لم يزر مكة لم يعرف معنى: «الحياة» كاملا.. ولم يعرف كذلك معنى:” البركة ” كاملا..

 لكِ يا منازل في القلوب منازل

إن السعادة منذ أقدم فترة

ضربت بهاتيك الربوع خياما

فإلى منازلها ومن سكنوا بها

أهدي السلام ولا أطيل كلاما

أما الشعور المقابل.. فكان الشعور بالفرح والسعادة والحبور.. فسنتوجه اليوم إلى المدينة المنورة.. تلك المدينة المباركة التي آوت النبي الكريم وصحبه، وأكرمتهم ونصرتهم..

المدينة التي تشرفت بالرسول مرتين.. مرة في حياته صلى الله عليه وسلم، ومرة بجسده المبارك في ثراها الطاهر..

المدينة التي يحس من يزورها أن كل مكان فيها، وكل جبل، وحائط يحدثه حديث المصطفى ويتلو سيرته.

المدينة التي لو خير المسلم (ولا قدر الله ذلك) بين أن تصيب بلده جائحة، أو أن تصيب مدينة المصطفى، لافتداها ببلده ومن فيها، ألف ألف مرة، وبين أن ينزل ببيته البلاء أو بالكعبة (ولا سمح الله بذلك أيضا) لاختار أن يكون بيته وألف ألف بيت مثله فداء لبيت الله.

 * * *

كانوا أعلنوا أن الغداء سيكون اليوم قبل الظهر، وبعد الصلاة مباشرة يُنزّل زملاء المجموعة عفشهم لدى الاستقبال (reception) ويسلمون مفاتيح غرفهم، وتأتي الحافلة حول الساعة الثانية والنصف، وقد وصلت في الموعد المحدد بالضبط، ووضعنا حقائبنا في المكان المخصص من الحافلة، ثم ركبناها، وتحركت الحافلة الساعة الثالثة، وبدأنا السفر بقراءة آية السفر وأدعيته، واستمرت الحافلة تمر بشوارع مكة وضواحيها نحو نصف ساعة أو أكثر.. وكان شعورنا شعورا مزدوجا… مشوبا بالترح والفرح كما أسلفت…

كانت الحافلة تسير بسرعة فائقة.. ولكن ما كنا نشعر بها.. لكون الطريق معبدا مذللا..

وهنا انتقل ذهني إلى الماضي.. يوم لم تكن هذه الشوارع والطرق المزَفّتة العريضة الآمنة.. وكان الناس يسافرون بالجمال، ويستغرق السفر من مكة إلى المدينة أياما بل أسابيع.. فكانوا يحتملون من المتاعب ما لا يوصف..

أما الآن فيجد الإنسان في السفر من أسباب الراحة والسهولة ما قد لا يجده في الحضر.

هذا. والسفر إلى مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، له من المتعة واللذة والسرور والسعادة ما يجل عن الوصف، ويسهل كل صعوبة، بل يجعلها لذيذة حبيبة إلى القلب.

والحقيقة أن مسافر المدينة لو قطع المسافة كلها مشيا على رأسه أو حبوا إليها.. لما أدى حق صاحب المدينة الشريفة.. صاحب المنة العظمى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم

توقفت الحافلة في الطريق مرتين.. لصلاة العصر والمغرب..

والتوقف يكون في محطة من محطات البترول، ومحطة البترول في السعودية عبارة عن قرية جامعة، فيكون فيها مسجد -وفي بعض المحطات مسجد جامع- مع دورات المياه، ومطعم ومقهى، وبقالة، وما إلى ذلك…

في الطريق بعض الإخوان كانوا ينشدون المدائح النبوية، التي كانت تحرك العواطف وتزيدها حرارة وحبا وشوقا إلى زيارة مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فللأبيات دورها في تأجيج المشاعر وإلهاب العواطف وإشعال الخامد..

هنا تحضرني نصيحة لشيخنا أبي الحسن الندوي رحمه الله، الذي كان زار المدينة المنورة في زمن دراستنا في الجامعة الإسلامية، فزودنا بنصائح غالية تتعلق بالإقامة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوصانا بالتزام آداب الإقامة في المدينة المنورة واستحضار حقوقها بشكل دقيق ومستمر، وأهم ما لفت أنظارنا إليه، أنه قال: إذا شعرتم بفتور أو نقص في الحب والشوق، فعليكم بالأبيات التي قيلت في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنها تحرك جمرات الحب وعواطف الشوق التي كادت تخمد أو تضعف..

ومع اقترابنا من مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت تزداد قلوبنا خفقانا وشوقا…

يا رب لك ألف ألف حمد وشكر.. رغم ذنوبنا التي لا يعرفها إلا أنت.. تتيح لنا اليوم – مرة أخرى – فرصة زيارة مدينة حبيبك.. فوفقنا لأداء حقها.. ولا تحرمنا فضلها وبركاتها..

ثم بدت علامات قرب المدينة الشريفة.. وظهرت أنوار أعمدتها ومبانيها..

إذن.. قد تشرفنا بدخول المدينة الشريفة.. الله أكبر.. الله أكبر.. ودخلت الحافلة مارة بشوارع المدينة وطرقها النظيفة المتلألئة بالأنوار البديعة إلى أن وقفت عند فندق: «درة طيبة» الذي لو قلنا إنه على غلوة من الحرم لما بالغنا.. ونزّلنا حقائبنا، وسُلِّم كلٌ واحد منا مفتاح غرفته، وكانت غرفتنا على الدور السابع في اتجاه الحرم.. إلى قبلته بالضبط.. فالحمد لله..

وبعد وصولنا بدقائق دعونا إلى تناول العشاء، فتعشينا، وكانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة، فقلنا: علينا أن ننام الآن.. لكي نستيقظ مبكرين في السحر قبل أذان التهجد، ثم نصلي صلاة التهجد والفجر في الحرم بإذن الله، فأوينا إلى فرشنا، لكي نأخذ فيها حظنا من النوم والراحة.

(الخميس: 17 من رمضان المبارك 1445ھ – 28 من مارس 2024م)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى