الأحد مايو 19, 2024
مقالات

من وحي الأيام:

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: أسبوعان في ظلال ضيافة الرحمان (7)  

الأربعاء: 25/ 8/ 1445ھ – 6/ 3/ 2024م

التشرف بزيارة المسجد النبوي الشريف:

استيقظنا الساعة الرابعة سَحَرا، فقضينا الحوائج، واستعددنا للذهاب إلى الحرم النبوي الشريف، ثم خرجنا من الفندق متوجهين إليه، وإن هي إلا أقل من خمس دقائق.. حتى وصلنا إلى المسجد الشريف، وأول ما وقع عليه نظرنا: القبة الخضراء الشريفة.. حيث يرقد مفخرة الإنسانية ودرة تاج الكون وواسطة العقد البشري سيد المرسلين نبينا محمد بن عبد الله الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وصلنا إلى المسجد الشريف، وكان أذان التهجد يرتفع من منائره العالية، وكانت أفواج المصلين تتسارع إلى المسجد، ووفقنا الله تعالى للصلاة والدعاء ما شاء الله أن يوفق، وبعد أذان التهجد بساعة كاملة أذن لصلاة الفجر، وبعده بنحو عشر دقائق، قامت الصلاة، وكان الإمام جديدا بالنسبة لي.. ومن العجب أو قل من سوء حظي أنني لم تتيسر لي الصلاة خلف إمام من أئمة الحرمين الذي أعرفهم، فهنا في المسجد النبوي لم تقدر لي الصلاة خلف الشيخ علي الحذيفي الذي يقوم بالإمامة منذ أن كنا ندرس في الجامعة الإسلامية، وهو أستاذي أيضا، فقد كان درّسنا العقيدة في الجامعة.

هذا. والحرم النبوي أيضا قد صار أكبر وأوسع أضعافا مضاعفة من حرم زمننا، فلم أكد أعرف منه إلا الجزء التركي، الذي مازال معظمه محتفظا بجماله وتميزه وروعته، وخصائصه البنائية والدينية والفنية، أما التوسعات السعودية العملاقة.. فحدث عن البحر ولا حرج.. إنها توسعات لم ير لها نظير قط..

هذا. ومن فضل الله تعالى علينا أن تشرفنا بالصلاة والسلام على رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – عند قبورهم، والزحام الشديد لم يمَكّنّا من التوقف عندها، بل كان هناك مجرد مرور بها..، وإن كنا حريصين على أن نتوقف قليلا من الوقت عند القبر الأشرف، فنروي بعض العطش من الحب والشوق والعاطفة، ونحاول إشباع بعض مقتضيات الروح، ونتزود بشحنة من الإيمان واليقين، ونقضي سويعات مباركة في مصاحبة أطهر إنسان وأقدس بشر.. ولكن رحم الله الزحام..  فلم يدع لنا فرصة لإشباع رغباتنا الروحية..

على كل.. حمدنا الله تعالى على هذا الشرف العظيم.. شرف الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وهنا هال الكاتبَ وأفزعه ما كان أفزعه وهاله عند الكعبة.. من حرص القادمين إلى القبر الشريف على التصوير أكثر من حرصهم على الصلاة والسلام على صاحبه العظيم، حتى أن العدد الكبير منهم كأنه ما أتى إلا ليسجل ويصور لحظات وجوده في هذا المكان الطاهر، الذي من المفروض أن تكون القلوب فيه خاشعة وجلة.. والجوارح معظمة متأدبة.. والألسنة رطبة بالذكر والدعاء..

 فهنا يرقد أفضل وأقدس وأطهر إنسان.. فراعوا -أيها المصورون- عظمته وحرمته، وقداسته وطهره، وأعطوه حقه من الأدب والاحترام، واعلموا أن عملكم التصويري هذا لا ينسجم وحرمة المكان وعظمة الشخصية التي أنتم في حضرتها..

 * * *

زيارة مسجد قباء:

كان صديقنا الدكتور محمد القرشي تكرم – وأنا خارج من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة – فأرسل إلى رسالة يبشرني فيها بأن:

«سيتواصل معك سائق يعمل عندنا في المدينة، ويكون في خدمتكم بمشيئة الله».

فما وسعني تجاه هذه اللفتة القرشية الحانية الأخوية الكريمة إلا الشكر والدعاء لصاحبها الكريم بالجزاء الأوفر من الرب الشكور.

وكان الأخ السائق قد تواصل معي بعد وصولي إلى المدينة بدقائق، مخبرا أنه يكون في خدمتي -حسب توجيهات السيد القرشي- طوال مدة إقامتي في المدينة، وراجيا أن أطلعه قبل الخروج بنصف ساعة، ويحضر على الموعد إن شاء الله.. فشكرت له، وقلت: تعال بكرة الساعة التاسعة! فقال: إن شاء الله.

وقد حضر الأخ السائق على الموعد المحدد، وقلت له: نبدأ بزيارة مسجد قباء (أول مسجد بني في الإسلام) وتشرفنا بالصلاة فيه بعد أكثر من عشرين سنة، وهذا المسجد هو الآخر -أيضاً- قد وُسِّع توسعة عظيمة تليق بمكانته، إذ يتوافد إليه آلاف من الزائرين لأهميته، ولما في الصلاة فيه من الأجر والثواب، فقد جاء في الحديث: «من توضأ، فأسبغ الوضوء، وجاء مسجد قباء، فصلى فيه ركعتين، كان له أجر عمرة».

حينما كنا ندرس في الجامعة الإسلامية، كنا نذهب إليه يوم السبت، وكان قريبا من سكننا، حيث كان في شارع قربان، الذي كان يؤدي إلى مسجد قباء.

ذكرت حينما وصلت إلى المسجد، أن كانت هناك شقق على يمين المسجد في زمن دراستنا في الجامعة، وفي إحدى هذه الشقق كان يسكن الشيخ محمد المجذوب رحمه الله أستاذ الجامعة، وكان شرف ندوة العلماء في ١٩٨١م أستاذا زائرا، وألقى عدة محاضرات في الأدب والدعوة، وكان ألف كتابا يحتوي رحلته هذه، سماه: «مشاهداتي في الهند» وهو جدير بالقراءة لما يتضمن معلومات قيمة عن مدارس الهند وحركاتها ومنظماتها الإسلامية.

وبعد ذلك … ذهبنا إلى قبر سيد الشهداء حمزة، ثم مررنا بمسجد الخندق ومسجد القبلتين.

الجامعة الإسلامية:

ثم توجهنا إلى الجامعة الإسلامية.. تلك الجامعة التي أعتز بأنني من طلابها، فحينما كنت أدخلها من بوابتها الرئيسية، كنت أشعر بسعادة غامرة وفرح لا يوصف، لأن هذه الجامعة أدين لها الكثير والكثير.. في دراساتي القرآنية بمختلف شعبها وأنواعها، حيث درست في كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية.

فكانت فرحتي لا توصف لدى دخول الجامعة، وكنت قد زرت الجامعة بعد التخرج (١٤٠٥ھ) مرة أو مرتين، ولكن كنت أدخل الجامعة اليوم بعد ثلاثين سنة أو أكثر.

ولكن ما لي.. لا أرى جامعتي التي قضيت فيها أربع سنوات، ومررت – خلالها – بشوارعها ومهاجعها ومبانيها مئات المرات.. ولكن لا أرى اليوم جامعتي تلك التي عهدتها.. وكدت أن أقول للأخ السائق: لعلك أخطأت الطريق … ولكن امتنعت.. إذ كنت قد رأيت البوابة.. فكانت البوابة نفس البوابة.. التي كانت في زمننا، ومكتوب فوقها: الجامعة الإسلامية..

إذن ما أخطأ السائق.. بل الجامعة هي التي تغيرت.. عفوا.. تطورت تطورا مذهلا.. وحلت المباني الجديدة محل المباني القديمة التي كانت في زمننا، فلم أر لها عينًا ولا أثرًا.. والمباني الجديدة أنشئت على أحدث طراز وأجمله، وأسست أقسام وكليات جديدة لم تكن في زمننا، ولم يكن في الوقت متسع يسمح لنا بالنزول من السيارة وزيارة -على الأقل- كليتي.. واكتفينا بالمرور ببعض الأقسام والكليات..

على كل.. أقررت عيني برؤية جامعتي الحبيبة.. وإن لم يكفني ذلك.. فما شفى مني عليلا.. ولا أروى غليلا..

ولكن ما لا يدرك كله.. لا يترك جله.. إن لم يصبها وابل فطل..

ورجعنا لأن الحين قد كان حان لصلاة الظهر..

رجعت وفي القلب حسرة وشعور بالحرمان.. على عدم التمكن من إشباع الرغبة في زيارة الجامعة زيارة مفصلة ومقابلة المشايخ والأساتذة وتبادل أطراف الحديث معهم..

ولعل الله ييسر لي زيارة الجامعة في فرصة أوسع وبشكل أشبع في قريب الأيام إن شاء الله.

مأدبة غداء:

صلينا الظهر في الحرم، وبعد الظهر كنا مدعوين إلى مأدبة غداء عند الشيخ الدكتور اللواء فيصل بن جعفر بن عبد الله بالي -مدير عام إدارة الشؤون الدينية للقوات المسلحة السعودية سابقا-.

علاقتي بالدكتور قائمة منذ أكثر من ثلاثين سنة، وهو رجل فاضل دمث الأخلاق، ورجل علم وبحث وتحقيق أكثر من أن يكون عسكريا.. وخطيب مفوه، وكاتب قدير ومؤلف ناجح، وكلما لقيته شعرت كأنني ألقى أحد أقربائي الأقربين من العمومة أو الخؤولة..

لقيته مرات ومرات.. في الرياض وحيدر آباد، فقد شرف حيدر آباد بزيارته أكثر من مرة للمشاركة في المؤتمرات والندوات التي كانت تقام في الجامعة الإسلامية دار العلوم/ حيدر آباد، كما كان شرف منزلي -في الحرم الجامعي- بزيارته، ولما علم بزيارتي للمدينة، تكرم فعرض علي الإقامة في منزله العامر، ولكن اعتذرت إليه شاكرا له حبه وكرمه، فالزائر لأيام معدودات يفضل الإقامة في أقرب مكان من الحرم، حتى يؤدي الصلوات فيه.

على كل.. كان الشيخ بالي أرسل نجله الأستاذ عبد الله فيصل بعد صلاة الظهر إلى الفندق ليرافقني إلى البيت، فلما وصلنا -أنا وأم حسان- إلى البيت، وجدت الشيخ الجليل واقفا – رغم كبر سنه – عند الباب، منتظرا لقدومي، فرحب بي أحر ترحيب، وكان هذا اللقاء بعد أكثر من ٢٥ سنة، فلما رآني بعد هذه المدة الطويلة، قال: كبرتم…!

وبعد تبادل كلمات التحية والحب توجهنا توا إلى صالة الطعام، حيث كنت وصلت متأخرا، وكان على المائدة أولاد الشيخ وبعض أحفاده أيضا. وكان الشيخ يطعمني في حب وحنان، وكان يقدم إلى -حينا بعد حين- أجزاء لذيذة من اللحم، وحب الشيخ زاد الطعام لذة وهناء.

وبعد تناول الطعام شربنا أنواعا من الشاي، واستعدنا الذكريات الماضية الحلوة، ذكريات اللقاء في الرياض وحيدر آباد، ومن حسنات الشيخ بالي أنني تشرفت بالإفطار على مائدة سمو الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز آل سعود في قصر سموه بالرياض في رمضان ١٤١٨ھ، وإلقاء كلمة أمام سموه.

على كل.. كانت الجلسة مع فضيلة الشيخ بالي جلسة ممتعة عبقة برائحة الماضي الذي كلما بعد بدا أجمل وأروع ما يكون.. وقد كان فعلا أجمل وأروع وأخلى من المكدرات والمنغصات التي نواجهها في الحاضر..

اللهم! أعد إلينا ماضينا.. ماضينا الهادئ الآمن المملوء بالمسرات، المريح للقلب، الملهم للفكر، ونجّنا مما نحن فيه اليوم من المكدرات والمنغصات للعيش..

اللهم آمين..

وبما أن وقت العصر كان قد حان، وكنا نريد أن نصلي في الحرم، فاستأذنّا الشيخ الجليل، فأذن لنا، فرجعنا سعداء محظيين بما لقينا ما لقينا من الحفاوة والحب والترحاب مما لا نقدر على التعبير عنه، فالخُلق المدني أجل من أن يوصف، وأعرف من أن يعرّف…!

والحمد لله أولا وآخرا.

(السبت: 19 من رمضان المبارك 1445ھ – 30 من مارس 2024م)

Please follow and like us:
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب