الأحد مايو 19, 2024
مقالات

من وحي الأيام:

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: أسبوعان في ظلال ضيافة الرحمان (٩)

الجمعة: 27/ 8/ 1445ھ – 8/ 3/ 2024م

زيارة الروضة الشريفة

«ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي».

لقد أحسنت إدارة الشؤون الدينية إذ ضبطت زيارة الروضة الشريفة بالحصول على التصريح بالزيارة، فقضت بذلك على مظاهر الفوضى والتزاحم والتدافع المشينة، التي كانت تؤثر على الهدوء والوقار المطلوبة مراعاتهما في الروضة الشريفة، والتي كانت تجرح حرمة المكان وتسيء إلى أدب المقام.

منذ أن كنا تشرفنا بالوصول إلى المدينة المنورة، كنا نترقب -بفارغ الصبر وفي مزيد من الشوق- صدور التصريح لنا بزيارة الروضة الشريفة، حتى بشرونا بأنهم قد استصدروه، وتكون الزيارة بمشيئة الله تعالى الساعة الثانية والنصف ظهرا من يوم الجمعة (27 من شعبان)، فحمدنا الله تعالى على ذلك، ووصلنا على الموعد المحدد إلى المكان، الذي يبدأ منه دخول زوار الروضة الشريفة، ويمر الزائرون بنقطتي تفتيش بسيط، وبعد مرحلة التفتيش، يجلسون عند الباب الذي يؤدي إلى الروضة، ويُسقون ماء زمزم، ويُعطى كل واحد منهم كيسا للحذاء، وبعد قليل من الانتظار سمحوا لنا بالدخول، فدخلنا، فتدافع الزوار، حيث كان كل منهم حريصا على أن يظفر بمكان أقرب إلى المنبر، ووجدت المكان عند يسار المكبرية (1)، وسألت أحد المسؤولين المراقبين: هل هذا المكان من الروضة الشريفة؟ فأجاب: إن شاء الله، وصليت الركعتين، ثم دعوت الله تعالى بما شاء أن أدعوه.. طالبا حسنات الدنيا والآخرة لي وللمسلمين أجمعين، والتفريجَ عن هموم المهمومين ونصرةَ المستضعفين، ودعوت كذلك: اللهم كما شرفتني بدخول روضة من رياض جنتك في الدنيا، أدخلني جنتك في الآخرة أيضاً بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين!

بينما كنا مشتغلين بالصلاة والدعاء، ولم يمض إلا ربع ساعة، إذ أعلن معلن: مكانكم.. فأنتم هنا إلى صلاة العصر إن شاء الله.. فقلنا: لا فض فوك يا أيها الأخ الكريم! شكرًا شكرًا.. نور على نور.. حسنى وزيادة..

معنى ذلك اننا نمكث هنا أكثر من ساعة، بينما -عادة- لا يسمح للزائرين بالمكث في الروضة أكثر من ربع ساعة..

كان أمامي – على بعد أمتار – منبر الرسول صلى الله عليه وسلم..

ذلك المنبر الذي ظل يشرفه الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنوات..

فمن على هذا المنبر كان -صلى الله عليه وسلم- ينثر اللآلي والدرر من حكمه وتوجيهاته، وينشر النور الإلهي الذي عم أرجاء المعمورة كلها..

وعليه كان يقوم فيخطب. فيدعو إلى دعوته ورسالته، ويسن السنن، ويوضح المعالم، ويقضي الأقضية، ويصدر الأوامر الحاسمة للغزوات والسرايا والجيوش، ويربي الأمة.

بينما كنت أفكر في شرف المنبر وصاحبه الأعظم -صلى الله عليه وسلم- إذ تذكرت الحديث الذي رواه البخاري: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه، فحن الجذع، فأتاه فمسح يده عليه».

الله أكبر.. الله أكبر.. حتى النبات -الذي لا روح فيه ولا حس ولا عاطفة ولا وجدان- يشعر بصدمة فراق نبي الرحمة.. وكأنه -الجذع- حُرم تلكم الرحمات والبركات التي كان يحظى بها حينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إليه، فأبدى حسرته وحزنه على هذا الحرمان.. ويا له من حرمان.. فكأنه قلق واضطرب.. وتوجع وتفجع.. فعزاه النبي وسلاه، فوضع يده النبوية الحانية عليه، فهدأ وسكن.. وزال ما كان به من حزن واضطراب..

على يسار المنبر محرابُ النبي صلى الله عليه وسلم..

ذلك المحراب الذي تشرف بصلوات أعبد إنسان وركوعاته وسجداته وتضرعاته فيه..

ذلك المحراب الذي كان يؤم فيه إمام الأنبياء أفضلَ جيل بشري، لم ولن ير الكون أفضل ولا أطهر منه..

فكأن هذا المكان -محرابُ النبي- أفضل مكان -بعد الكعبة- لكونه سعد بمس النبي إياه مئات المرات..

فيا لسعادة هذا المكان..

أقول – تحديثا بالنعمة – إن الله تعالى شرف هذا المقصر – كاتب الحروف – بالصلاة في هذا المحراب النبوي يوم كان يدرس في الجامعة الإسلامية.

كنت جالسا على يمين الحجرة المباركة الشريفة، التي تحتضن في رحابها أطهر الخلائق..

تلك الحجرة التي تشرفت بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته، كما تتشرف بجسده المبارك في ثراها الطاهر..

بينما كانت تتوارد على خاطري العديد من الأفكار وأنا جالس في الروضة الشريفة، إذ أذن المؤذن للعصر، فأنصتنا له، مرددين كلماته مع المؤذن، وبعد ما فرغ المؤذن من الأذان، صلينا ركعتين، وبعد الأذان بنحو عشر دقائق قامت الصلاة، وبعد الصلاة تشرفنا بالصلاة والسلام على رسول الله عليه وسلم وصاحبيه الجليلين.

وهكذا تمت هذه الزيارة المباركة للروضة الشريفة.

هذا. وقلب الكاتب وقلمه يسجدان لله شكرّا، ويلهجان بحمده نطقا وكتابة على هذا التشريف العظيم، الذي لولا فضل الله، لما حظي به.. والله ذو الفضل العظيم.

الهوامش:

(1) أي المكان المربع المرتفع القائم على أربعة اعمدة، الذي يؤذن منه للصلوات.

(جمعة الوداع: 25 من رمضان المبارك 1445ھ = 5 من أبريل 2025م)

Please follow and like us:
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب