إذا سأل سائل: ماهي أشرف رحلة إنسانية، وأجلها قدرًا، وأعلاها ذكرًا، وأطولها مسافة، وأشملها مساحة، وأعمها خيرًا وأعظمها بركة للبشرية، وأبعدها أثرًا على الإنسانية جمعاء.. منذ الأزل إلى الأبد؟
كان الجواب -بلا توقف أو تردد-: إنها الرحلة التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم لأهميتها وعظمتها.. والتي تسمى – في تاريخنا الإسلامي-: رحلة الإسراء والمعراج!
تلك الرحلة النبوية الغيبية -المعجزة- التي بدأت من بيت الله المعظم -أول بيت وضع للناس-، وعرّجت على المسجد الأقصى -ثاني بيت وضع للناس-، ثم امتدت وتقدمت مرتفعة إلى السماوات العلى.. ثم الأفق الأعلى.. إلى: «سدرة المنتهى»..، إلى المستوى الذي سمع فيه صريف الأقلام في تصاريف الأقدار.. وما إلى ذلك..
رحلة الإسراء والمعراج:
ونحن – أبناء الأمة الإسلامية المحمدية – نعتز بأن قُدِّر لنا هذا الشرف الأعظم أن يكون نبينا محمد عليه الصلاة والسلام صاحبَ هذه الرحلة الغراء.. الأعظم علوًّا.. الأبعد مساحة.. الأطول مسافة..
أما الشرف – شرف الرحلة -، فيقصر أي تعبير إنساني عن بيان شرف:” هذا الشرف ” الأشرف، ولا يحيط به أي وصف مهما كان بليغًا شاملًا..
أما سمو: «الرحلة» أو عروج صاحبها إلى رحاب الملأ الأعلى.. فيكفي بيانًا لذلك قوله تعالى: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى}، وصعد -صلى الله عليه وسلم- درجة أخرى أقرب إلى عرش ربه وأدنى، وكُشِفت عنه -صلى الله عليه وسلم- الحجب، وأزيحت عنه الأستار..، فرأى – بأم عينيه ما رأى.. وتلقى -وحيًا من ربه- ما تلقى..
إنه سُمُوٌ – أو أمرٌ – فوق طاقة الإنسان ووراء فهمه وتصوره.
أما المسافة القياسية التي طويت عبر هذه الرحلة.. فلا تُقَدَّر -طولًا أو عرضًا أو ارتفاعًا- بالمقاييس الإنسانية المحدودة.. إنها مسافة ما وراء تخمينات المخمنين.. فإن هذه الرحلة العظيمة لا تُحَدَّد بحدود الزمان والمكان.. بل هي رحلة تشمل آمادًا وآفاقًا أوسع من الزمان والمكان.
فرحلة الإسراء ليست رحلة عادية.. إنها رحلة متميزة – بكل ما تحمل الكلمة من معنى – خارقة للعادة.. لم يسعد بمثلها -أحد من الأنبياء فضلًا عن عامة الناس- غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
رحلة الإسراء والمعراج:
من بدايتها إلى نهايتها.. ومن أولها إلى آخرها عجب في العجب.. ودهش في الدهش.. عبارة عن الحيرة اللامتناهية.. خلافًا للمألوف والمعروف والمتصَوَّر..، فطيّ الأرض -آلافًا مؤلفة من الأميال- والعروج إلى السماوات، ثم الصعود إلى نقطة من: «العلو» لم يَصل إليها بشر ولا ملك.. ثم الرجوع إلى مكة قبل أن يبرد فراشه صلى الله عليه وسلم… أمر لا يصدقه العقل، ولا يدخل في حيز المنطق، ولكنه واقع وقع.. وأمر حدث، وحقيقة كالشمس والقمر والكواكب.. والليل والنهار.. ومن الثوابت والحقائق التي لا يتطرق فيها طائف الشك إلى قلب أي مسلم.
رحلة الإسراء والمعراج: لم تكن رحلة عادية.. بل كانت رحلة نبوية مختارة، وسياحة سماوية شاملة، وأكبر معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم بعد معجزة القرآن الكريم، أيد الله بها نبيه وشرفه وكرمه وعزاه وسلاه وثبته..
رحلة الإسراء والمعراج:
سمو وارتقاء فوق حدود الزمان والمكان وأوضاع الوقت المألوفة عندنا..
رحلة الإسراء والمعراج: شرف وتكريم ليس فوقهما (بل لا يتصور فوقهما) شرف ولا تكريم.
رحلة الإسراء والمعراج كانت ضيافة ربانية، وكان الضيفُ أحبَ العباد إلى الرب جل وعلا: رسولَنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فما أجلَّه من مضيف، وما أكرمَه من ضيف، ولنعمت الضيافة تلك الضيافة.. ولنعمت الرحلة تلك الرحلة التي تشرف فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بتلك الضيافة السماوية التي لم يحظ بها أحد -غيره صلى الله عليه وسلم-.. ويا له من حظ!
فإذا كانت الضيافة سماوية علوية.. والمحظي بها أكرَم الخلق.. فالوصف لمظاهر الاحتفاء والتكريم فوق قدرة التعبير البشري لسانًا وقلمًا.
رحلة الإسراء والمعراج:
كانت إعلانًا ربانيًّا عامًّا – من على منبر المسجد الأقصى- لتكريم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بشرف القيادة والريادة لموكب النبوة المبارك عبر إمامته لجميع الأنبياء والمرسلين، وإعلامًا عالميًّا من الله تعالى بكون رسالته -صلى الله عليه وسلم- رسالة عامة خالدة إلى قيام الساعة..
رحلة الإسراء والمعراج: تَواصُلُ الرسالات وترابطها بعضها ببعض مكانًا ومقصدًا، مع إعلان تَميُّزِ رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بكونها شامة بين جميع النبوات والرسالات
رحلة الإسراء والمعراج: أول طيران إنساني في الجو.. (وتوبة إلى الله ومعذرة إلى القراء إذا كان التعبير غير موفق).
رحلة الإسراء والمعراج: تُمَثِّل تحديًا للجن والبشر..
صحيح أن الباحثين في علوم الفضاء قد وصلوا إلى بعض الكواكب، ولكن أنى لهم أن يصلوا إلى أبواب السماوات فضلًا عما فوقها…
فهذه الرحلة تتحداهم بأنهم لن يصلوا إلى شيء من ذلك.. {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان} ٣٣: الرحمان.
رحلة الإسراء والمعراج: كانت إشارة إلى ما سيشهده العالم من تطور هائل وعجائب ومدهشات وابتكارات محيرة للعقول في المستقبل، وقد شهد العالم -فعلًا- كثيرًا من ذلك!
رحلة الإسراء والمعراج:
كانت إيناسًا وإنساء… إيناسًا من الرب جل وعلا لعبده النبي المصط في صلى الله عليه وسلم بكل ما يفرحه ويشرفه ويقويه ويجبر خاطره ويسليه، وإنساءً لكل ما أصابه من هم وغم بفقده عمَّه الكريم أو زوجتَه الحبيبة، وتعويضًا عما لقيه من أهل الطائف ما لقي، وغير ذلك من أنواع الهموم والصدمات.
إن أبرز ما يتجلى في هذه الرحلة: تكريم النبي صلى الله عليه وسلم والترحيب به…
فالتكريم الرباني لحبيبه والترحيب السماوي به سمتان بارزتان تتجليان في جميع مراحل الرحلة أعظم وأوضح وأروع ما يكون التجلي..
فقد رَحَّبَ به -صلى الله عليه وسلم أفضلُ من في السماوات والأرض، رحب به الأنبياءُ والملائكةُ هنا وهناك…
ثم انظروا كيف شرف الله تعالى حبيبه صلى الله عليه وسلم وكرمه في المسجد الأقصى، فجعله إمامًا للأنبياء والرسل، ثم فتحت له أبواب السماوات سماء بعد سماء.. ورحّب به -صلى الله عليه وسلم- لدى مدخل كل سماء من قبل الأنبياء، كما لقي صلى الله عليه وسلم -هناك الملائكةَ المقربين، ودنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى…وكل ذلك من مظاهر التكريم والتشريف، والترحيب والتقريب ما يدل على حب الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حبًّا لم يحظ به أحد غيره صلى الله عليه وسلم، وعلى تشريفه -تعالى- إياه -صلى الله عليه وسلم- تشريفًا لم يشرف به غيره صلى الله عليه وسلم.
إذا كان المشرِّفُ اللهَ سبحانه، والمشرَّفُ عبدَه المجتبى، فالتشريف لا يقدَّر ولا يحاط بعظمته ومداه…
رحلة الإسراء والمعراج:
ليت المدائح تستوفي مناقبكم
فما كليبٌ وأهل الأعصُر الأوَلِ
خذ ما تراه ودع شيئًا سمعت به
في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحلِ
هذه الأبيات وإن كان قالها المتنبي في مدح سيف الدولة الحمداني، ولكنه ليس أهلًا لها، وإنما الذي يستحقها ويصلح لها هو النبي المصط في صلى الله عليه وسلم، فمهما كتب الكاتبون، ومدح المادحون، وقرض الشاعرون في وصفه -صلى الله عليه وسلم- فلن يستوفوا حقه من المدح والثناء، ولن يقدروا على الإحاطة بوصف العز، الذي أعزه الله به، فإنه تعالى أعزه -صلى الله عليه وسلم- عزًّا لم يعز مثله أحدًا من خلقه.
ثم توِّج هذا التشريفُ بأن المشرَّف -صلى الله عليه وسلم- منِح من لدن ربه الأعلى منحة غالية.. أو هدية سامية متمثلة في: «الصلوات الخمس»، التي كانت -في البداية- خمسين، ثم خفف الله عنها مراعاة لضعف العباد، فجعلها: «خمس صلوات»، ولكنها تعدل «خمسين صلاة» في الأجر والثواب.
«الصلاة» سميت معراج المؤمن، فبها يرتقي العبد المؤمن، ويصعد إلى رضا الله تعالى، ويتقرب إليه ويسمو إلى أعلى الدرجات وأفضل المنازل.
فيا لها من هدية عظيمة أهديت إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم من ربه جل وعلا.
يراعَى في: «الهدية» شأنُ المهدَى إليه، والمهدي -نفسه- يهدي الهدية على قدر منزلته…
و«الصلاة» شاملة لهذه المعاني كلها..
فما أعظمها من هدية.. تهدى من أجَلّ مهْد -سبحانه- إلى خير عبد له..
الله أكبر.. الله أكبر..
الحمد لله.. الحمد لله..
والشكر لله وحده.. الذي أتحفنا بهذه الهدية العظمى عن طريق نبيه صلى الله عليه وسلم، التي نستطيع أن نعرج بها إلى أسمى درجة وأرفعها من رضا الله وحبه وقربه.
رحلة الإسراء والمعراج:
كانت معجزة.. وكانت آية ترافقها آيات بينات (لقد رأى من آيات ربه الكبرى).
فقد كانت بدأت الرحلة بشق الصدر إعدادًا للمثول بين حضرة القدس الإلهية، ورأى فيها صلى الله عليه وسلم الجنة والنار وعقاب بعض الجناة، و أتي صلى الله عليه وسلم بإناء من لبن وإناء من خمر، فاختار اللبن، فقال جبريل: هديت للفطرة، ولو أخذت الخمر لغوت أمتك، (البخاري)، «فكان هو صلى الله عليه وسلم جامع أمته، ومنشأ ظهورهم، و كان اللبنُ اختيارَهم الفطرةَ، والخمرُ اختيارهم لذّاتِ الدنيا» (حجة الله البالغة).
فسبحان من أسرى بعبده -رسولنا المصط في- إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات العلى، وأراه -ما أرى- من آياته الكبرى، واحتفاه بما احتفي!
ولا شك أن في رحلة الإسراء والمعراج لعبرًا ودروسًا كثيرة، لعل من أهمها وأعظمها أن حياة المتميزين لا تخلو من البلاء، وأنهم يحاصَرون من أهلهم وأعدائهم على السواء، وطريقهم مفروش بالشوك والقتاد، وليس مفروشًا بالرياحين والورود، وأن عليهم الصبر والصبر.. والاستقامة على الجادة، فالمستقبل المشرق ينتظرهم، والترحيب الحار، والاستقبال الطيب، والتكريم المغبوط، والجزاء الحسن.. ثمار يانعة سيقطفونها من الشجرة التي سقوها بماء صبرهم وعنائهم.
فطوبى للغرباء الصابرين..
والعاقبة للمتقين..
وسلام على المرسلين..
والحمد لله رب العالمين!
(الخميس: ١٠ من رجب ١٤٤٤ھ = ٢ من شباط -فبراير- ٢٠٢٣م)