خصائص الأدب الإسلامي
إن للأدب الإسلامي خصائص تميزه عن سائر الآداب، ونحب أن نتحدث -فيما يلي- بشيء من التفصيل عن بعض خصائصه مستفيدين من آراء كبار الأدباء والكتاب المعاصرين.
الخصيصة الأولى: العقدية:
لعل أهم خصائص الأدب الإسلامي أنه أدب عقدي، لا يصطدم بالثوابت الإسلامية، التي جاء بها الكتاب والسنة.
والنصوص الأدبية والنقدية التي تشير إلى ضرورة ارتباط الأدب بالعقيدة كثيرة متعددة، وهي تلح على ذلك إلحاحًا.
وربما دفع النقاد إلى التشدد في هذا المبدأ ما شاع في الأدب العربي عبر عصوره المختلفة خاصة في العصر الحديث من رموز ومعان تصطدم بالعقيدة الإسلامية، وتتطاول على ثوابت الأمة ومقدساتها بدعاوي التحليل واللاشعور وما إلى ذلك، من حيل تبريرية تتيح للكاتب أن يتحرر من قيود متعددة، أهمها بالطبع: العقيدة، كما كثرت في الأدب الحديث الألفاظ والمصطلحات التي تصدم الحس الإسلامي، حيث استخدم بعض الشعراء هذه الألفاظ والمصطلحات في غير ما وضعت له.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه: “ما الذي يمكن أن تقدمه العقيدة للأدب”؟.. خاصة أن العقيدة ذات مبادئ وأصول ثابتة، بينما يمور الأدب بالحركة، وينفر من القيود والقواعد الثابتة.
إن العقيدة الإسلامية ليست جامدة، فهي عقيدة حيوية وخصبة، ولها رؤيتها الكاملة والواضحة لحقائق الوجود، وقد انبثقت منها قديمًا عشرات المدارس الفكرية التي أمدت الفكر الإنساني بتنوع هائل من الأفكار والتصورات.
كما أنها تشحذ خيال المسلم وذهنه، وتهيئ نفسه لتصور مشاهد البعث والحساب والمعجزات، وكل هذه الأمور لا تصيب الأدب بالجمود والثبات، ولا تكبل الأديب بالقيود والأغلال، بل تفتح له طاقات من النور والأمل، والتخيل بما تتيحه للأديب من عوالم لم يطلع عليها إلا في ظل هذه العقيدة.
لذلك.. فإن ما يقوله بعض النقاد الغربيين عن الأثر السلبي للعقيدة على الأدب، قول لا يصح بالنسبة للعقيدة الإسلامية التي حررت العقل البشري من الجمود والتقليد، ودعته للتفكر والتأمل والتدبر.
إن العقيدة هي غذاء الروح، وهي حقيقة بديهية في كيان الإنسان، فهي تفسر له وجوده ومصيره، وتجيب عن الأسئلة الغامضة المحيرة التي حيرت الإنسان طويلًا.
والمتأمل في الأدب الإسلامي الذي نشأ في ظلال العقيدة، والتحم بما تطرحه من أفكار وآراء لا يجد فيه أثرًا سلبيًّا، ولا يشعر بقيود من أي نوع على الأديب، بل يشعر باليد الحانية التي تمتد إلى هذا الأديب، وتصحبه إلى شاطئ الأمان. (١)
ويتحدث الدكتور وليد قصاب عن الصلة بين الأدب والعقيدة، فيقول:
“إن الذي لا شك فيه هو أن الصلة بين الأدب والعقيدة هي صلة قديمة حديثة، ولكنها أجلى ما تكون عليه في الإسلام، إذ لم يعرف دين من الأديان السماوية أو مذهب من المذاهب البشرية علاقة وشيجة بينه وبين الأدب.. كما عرف ذلك الإسلام، ذلك أن معجزة هذا الدين الكبرى هي معجزة أدبية تمثلت في القرآن الكريم، قمة الروعة البيانة، وذروة الارتقاء الفني التعبيري، وبذلك نبه الإسلام منذ لحظة نزوله الأولى على دور الكلمة في بناء الإنسان والكون، وعلى أثرها في تكوين المشاعر والأحاسيس، وفي صياغة وجدان الناس، وتشكيل الرؤى والتصورات، ونشر القيم والأفكار والرسالات.
ولا ينبغي أن يمر المسلم مرورًا سريعًا على هذه الواشجة القوية، التي أقامها الإسلام بين العقيدة والكلمة في أشكالها المختلفة، التي يمكن أن تخرج عليها، ولا أن يغفل عن هذه الدلالة، أو لا يتوفر على درسها الدرس الكافي.
لقد مضى الإسلام بعد ذلك في نصيه الأساسيين الكبيرين: القرآن والسنة، يستخدم نماذج مختلفة للكلمة في التعبير عن رسالته، وفي تبليغ دعوته، وإيصال صوته إلى الأفئدة والضمائر والعقول، استخدم القرآن الكريم الموعظة، والمثل، والحكمة، والقصة، والمناظرة، والتاريخ، وغير ذلك، وصاغ الكلمة في هذه الأنماط جميعها، وفي كثير غيرها صياغة فنية مؤثرة، لم يرق إليها -ولا يمكن أن يرقى- أي أديب في القديم والحديث.
ثم استحكمت الواشجة بين الأدب والدين أكثر و أكثر في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد كان -عليه السلام- في ذروة سنام القوم فصاحة، وكان كلامه نماذج عليا في التعبير الأدبي الراقي، استعمل أشكالًا كثيرة من التعبير كالمثل، والخطبة، والحكاية، والموعظة المباشرة وغير المباشرة، والرمز والكناية، وأنماطًا لا حصر لها من تصريفات القول، وأساليبه المختلفة، وكان – عليه السلام- من الفصاحة والبلاغة بموضع يجعله مهيأً للتعامل مع القرآن الكريم -النص المعجز- تفسيرًا وتوضيحًا وتبليغًا، بمستوى فني عال يليق بالمكانة الأدبية البلاغية للكتاب المنزل.
ثم كان الشعر العربي -ولا سيما القديم منه- عاملًا أساسيًّا في إثبات إعجاز القرآن الكريم وفهمه، حتى أثرت المقولة المشهورة: “إذا استعصى عليكم شيء من كتاب الله، فالتمسوه في الشعر”.
ثم خرجت علوم آداب العربية كلها من مشكاة هذا الكتاب العزيز، فكانت البلاغة – مثلًا – ذات غرض ديني، هو فهم أسرار القرآن الكريم التعبيرية، والوقوف على عجائبه وطاقاته الأسلوبية لإدراك إعجازه وتميزه.
وكان وضع النحو والمعاجم وجمع شوارد اللغة، ولملمة أشعار العرب في دواوين ومجاميع ومصنفات لهذه الغاية العقدية، كان ذلك كله من جذوة القرآن وإليه، لحماية ألسنة الناس من الخطأ في كتاب الله، والاستعانة على فهمه وضبطه، وكان الاستشهاد باللغة والشعر مما لا يستغني عنه مفسر، ولا محدث، ولا فقيه، ولا قاض، ولا مفت، ولا خطيب، ولا طالب علم.
وهكذا قامت الواشجة القوية المكينة بين الدين والأدب على نحو لم يعرف في أي دين من الأديان، أو عقيدة من العقائد.
ولأن القرآن الكريم نزل باللغة العربية، ولأن النبي – عليه السلام – عربي، فقد ارتبط الإسلام بهذه اللغة ارتباطًا وثيقًا، حتى لا يتخيل إسلام من غير عربية، ولا عربية من غير إسلام، وكان هذا بُعدًا آخر يضاف إلى العربية وآدابها.
وقد أثر عن الإمام الشافعي -رحمة الله عليه- قوله: “ما أردت بتعلم العربية والأخبار إلا الاستعانة على الفقه”.
وقوله: “ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطو طاليس”.
وهكذا تبدو العلاقة بين الأدب والدين في الإسلام علاقة شديدة الوضوح، جلية لا خفاء فيها، ويبدو من غير الطبيعي تغييب هذه العلاقة، أو التشكيك فيها، أو التهوين من قيمتها.
إن الأدب الإسلامي إذن أدب عقيدي، أو هو مرتبط بالعقيدة الإسلامية، يصدر عنها، ويغترف من نبعها، والعقيدة الإسلامية مفهوم شامل للكون والحياة والإنسان، تشمل كل صغيرة وكبيرة، وتنعكس على أنشطة الإنسان جميعها، فهي ليست مقصورة على الشعائر الدينية: من صوم، وصلاة، وجهاد، وما شاكل ذلك، بل هي تصور كامل شامل لكل شأن من شؤون الحياة، وكل أمر من أمور الإنسان، ومن ثم فلا خطر أن تغتال العقيدةُ الفنَّ، أو تقص من أجنحته.
والأدب الإسلامي في هذا ليس بدعًا، فكل أدب يصدر عن عقيدة، وإذا كانت الآداب الحديثة اليوم قد استدبرت المعتقدات الدينية والشرائع السماوية، وتنكرت لوحي الله وكتبه ورسالاته، واستبدلت بها شرائع وفلسفات وعقائد من صنع الإنسان، بحيث أن الصلة بين الآداب الحديثة والأديان السماوية، هي صلة منقطعة أو شبه منقطعة، فإن الأدب الإسلامي يعيد هذه الصلة، ويرجع الكلمة إلى رحاب الدين: “محضنها الأول”. (٢)
(يتبع)
الهوامش:
(١) مجلة: (الرابطة): ذو القعدة ١٤٢١ھ ۔
(٢) مجلة (الحرس الوطني)، الرياض، ذو الحجة ١٤٢٤ھ ۔
(الجمعة: ٥ من جمادى الأولى ١٤٤٦ھ – ٨ من نوفمبر ٢٠٢٤م)