تحدثنا في الحلقات السابقة عن أهمية الأدب الإسلامي وخصائصه، مشيرًا إلى أن القرآن الكريم هو الذي أرسى دعائمه، كما أشاد به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، واعتنى به السلف.
وسنواصل حديثنا – فيما تبقى من الحلقات – حول جوانب مهمة أخرى تتعلق بالأدب الإسلامي.
حدود الأدب الإسلامي
للأدب الإسلامي حدود حسية ومعنوية، فالحدود الحسية هي الحدود المكانية، وتبدأ من شمال البسيطة إلى جنوبها، وهي من شرق المعمورة إلى غربها من طنجة إلى جاكرتا، ومن غانة إلى فرغانة، وتبدأ حدود الأدب الإسلامي الزمانية من انبثاق فجر الإسلام إلى رفع الأقلام وجفاف الصحف ونسف الجبال وطي السماء، وعلى ذلك فالأدب الإسلامي المتمتع بحدوده الزمانية والمكانية والحسية منها والمعنوية، ممتد بامتداد الزمان متسع باتساع المكان.
دور الأدب الإسلامي في الفتوحات
لا يملك مذهب من المذاهب العالمية، أو أمة من أمم الأرض من النصوص ما يملكه الأدب الإسلامي منها، فطوال خمسة عشر قرنًا لم ينقطع عطاء الأدب الإسلامي، فحتى في عصور الانحطاط لم ينقطع دوره في الدفاع عن قضايا الأمة والذود عن المسلمين، فقد قدم أعظم دور في الحروب الصليبية، فلم يذهب صلاح الدين الأيوبي إلى القدس، قبل أن يجلس في دمشق، ويجتمع في بلاطه خمسون شاعرًا يهنئونه.
فما الذي هيأ للانتصار في الحروب الصليبية؟
هم الشعراء الإسلاميون وقتها، وقال صلاح الدين الأيوبي: ” والله ما أخذت البلاد بالعساكر، بل فتحتها
برسائل القاضي الفاضل”. (١)
تأثير الأدب الإسلامي في الأدب الغربي
لقد ساهم الأدب الإسلامي خلال عصور التاريخ الإسلامي المجيد في نشر الفكر الإسلامي في كل مكان، ووضع أسس الثقافة الإسلامية، بل وحضارة الإسلام على دعائم قوية في كل جيل.
ثم عن طريق الأدب ونقل الفكر الإسلامي إلى مختلف البيئات في الشرق والغرب، اطلع الناس على الإسلام، وآمن به من هداه الله، وعن طريقهما كذلك سارت الدعوة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، ودخل الملايين في دين الله أفواجا.
وبدوره أخذ الأدب الإسلامي – أيضًا – طريقه إلى الجماهير والأمم والشعوب، ممن يعرفون العربية ويأخذون عنها مباشرة، وممن كانوا يعرفونها عن طريق الترجمة والنقل، ورأينا أوربا في عصر ما قبل النهضة تعنى بإنشاء كراسي علمية للغة العربية في جامعاتها، كما اهتم الأوروبيون كذلك بإرسال أبنائهم إلى المدارس العربية الإسلامية للدراسة، وحفظت الوثائق في جامعة آكسفورد اسم أول طالب إنجليزي، درس في المدارس العربية في الأندلس، وكان أحد المحاضرين في الجامعة نفسها، ويدعى ” جون سكوتس” وتلاه على مر الأيام أعداد كبيرة من الطلاب الإنجليز الذين التحقوا بتلك المدارس.
ونتيجة لذلك فقد سارت الشعوب الغربية في طريق النهضة، بما اقتبسته من علوم المسلمين ومعارفهم وآدابهم، كما أن أصول الفن الأوروبي الوسيط تعود جميعها إلى أصول عربية، فالأدب الإنجليزي الوسيط – وهوجزء من التراث الأدبي الأوروبي – مدين بالكثير للأشكال الأدبية التي نماها وطورها الشعراء العرب والمسلمون، بل وكان فضل الفكر الإسلامي والأدب الإسلامي على نهضة أوروبا جليًا في تحرير العقل من أشكال القيود الفكرية، وفي رفض فكرة توسط الأساقفة بين الله ومخلوقاته، وفي إباحتهم للطلاق. (٢)
مسؤولية الأديب المسلم
من واجبات الأديب المسلم المعاصر أن يقوم بدور تصحيحي في مسيرتنا الأدبية، فعليه أن يصل ما بين حاضرنا وبين مواريثنا الأدبية، وعليه أن يعيد إلى أدبنا المعاصر « الصدق » الذي افتقدناه، والانسجام الذي ضيعناه ما بين آدابنا وبين مشاعرنا ونفوسنا وأحاسيسنا، فليس من المعقول أن يكون للأديب اعتقادان: اعتقاد إيماني واعتقاد فني.
إن الاعتقاد واحد لا يتجزأ، ولا يتبدل بتبدل الأنشطة والمواطن، وإلا كان الأديب والشاعر يعيش بشخصيتين، وهذا ما تأباه طبائع الأشياء، وعلى الأديب المسلم أن يعيد للقرآن الكريم الذي هوأصدق كتاب وأروع بيان.. أن يعيد له مكانته في أدبنا المعاصر.
إن القرآن الكريم يعطي من الحقائق عن عالم الغيب وعالم الشهادة ما يبدد الأساطير والخرافات والأوهام، ويعطي من البيان وطرق التعبير ما يمكن أن يؤسس مدرسة أدبية تصل إلى أقصى درجات التعبير والتصوير والبيان، وليس هناك كتاب آخر يملك ما يملكه القرآن الكريم من اليقين في أخباره ومن الإعجاز في بيانه، فلا ينبغي أبدًا أن يدعه الأديب المسلم إلى ما سواه، ويستبدل الذي هوأدنى بالذي هوخير.
كما يجب على كل أديب أن يتمرس بالبلاغة العربية، ويتسلح بكل ثقافة عالية، ويتزود بالاطلاع على ما يمكنه الاطلاع على استقلالية الشخصية، وذاتية الخصائص في أدبنا الإسلامي، ليعزف أناشيد الإسلام في قوة وجلال، وليمثل خصائص أنبل التيارات الفكرية الإسلامية في تاريخنا القديم والحديث المعاصر، ومن أجل تزكية الروح، وترقية العقل، وتهذيب الوجدان. (٣)
اهتمام عمر بن عبد العزيز بالأدب
لقد كان لعمر بن عبد العزيز اهتمام بسماع الأدب وروايته، فقد روي عنه قوله: « ما كلمني رجل من بني أسد إلا تمنيت أن يمد له في محجته، حتى يكثر كلامه فأسمعه »، فاختصهم بالفصاحة والبلاغة لحسن منطقهم وأدائهم الحجة أداء فنيًّا جميلاً، وعندما أحسن رجل في طلب حاجة بين يديه، وتأتى لها بكلام وجيز ومنطق حسن، أثار إعجابَه الإيجازُ وحسنُ المنطق، فقال: ” هذا والله السحر الحلال”، وكان حريصًا على أدب يلتزم الإسلام ويقف إلى جانب الحق فيما يرويه ويحفظه من أشعار، فقد عرف عنه كثرة إنشاده شعر عبد الله بن عبد الأعلى القرشي الذي يقول فيه:
تجهزي بجهاز تبلغين فيه
يا نفسي قبل الردى لم تخلقي عبثًا
وسابقي بغتة الآجال وانكمشي
قبل اللزام فلا منجى ولا غوثا (٤)
(يتبع)
الهوامش:
(١) انظروا مجلة (الأدب الإسلامي)، العدد: ٣٢، وجريدة (العالم الإسلامي)، العدد: ١٨٥٣.
(٢) بتعديل من مقال للدكتور محمد خفاجي، نشر في جريدة (العالم الإسلامي)، العدد ١٨٧١.
(٣) بتعديل من مقال للدكتور محمد خفاجي، نشر في (جريدة العالم الإسلامي) العدد ١٨٧١.
(٤) مجلة (الأدب الإسلامي)، العدد ٣٢.
(الأربعاء: ١٧ من جمادى الأولى ١٤٤٦ھ = ٢٠ من نوفمبر ٢٠٢٤م )