أقلام حرة

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: الشاعر الأسطورة: أبو الطيب المتنبي

 الشاعر الأسطورة: أبو الطيب المتنبي (٣٠٣ – ٣٥٤ ھ = ٩١٥ – ٩٦٥م)

 تاجٌ على رأس الشعر العربي..

أو قل: متربعٌ على عرش من الشعر، قلما اعتلى مثلَه شاعر من الشعراء العرب.

ومن هنا.. سُمِّي بـ: «شاعر العرب الأكبر» على الإطلاق..

كما وُصف بـ: «الشاعر الأسطورة» و: «آية الله» و: «حكيم الدهر» و: «نادرة زمانه» و: «أعجوبة عصره» وغير ذلك من الألقاب والصفات، التي يرتفع قدرها بنسبتها إلى الشاعر الموصوف بها، أكثر من أن ترتفع بها قامته.

إذا قلنا إن شاعرنا محبوب.. كان في ذلك – فيما أظن – نظر..، فالحكم له بكونه حبيبا أثيرا لدى الناس، حُكمٌ قد لا يكون مطابقا – مطابقة تامة – للواقع والصواب!

أما إذا قلنا: إن شاعرنا محظي شعره بالإعجاب إعجابا يكاد ينقطع نظيره.. كنا أكثر دقة وتلاؤمًا مع الواقع، وقربًا إلى صحة الحكم وسداد الرأي في الشاعر..

فالإعجاب بشعر المتنبي، بسحر شعره، وجماله وقوته، ودقة أسلوبه ورقته وطلاوته، لا يتوقف ولا ينتهي مهما مضت القرون وتعاقبت الدهور..

والمتنبي كان حظي من الإعجاب بشعره منذ أن كان بدأ يقرضه، حتى كان قال ابن جني – وهو يصف إعجابه الشديد بالمواهب والخصائص غير العادية، التي مُنٍحها المتنبي من لدن الوهاب الحكيم -: «أنها نور من عند الله، استودعه قلبه»

 * * *

إذا قلنا: إن المتنبي خلق شاعرًا، أو خلق ليكون شاعرًا، لما عدلنا عن الصواب..

فلو أراد أن يكون غير شاعرٍ.. لاعتدى على فطرته وطبيعته، وجنى على موهبته، ولما وفق في عمل غير صناعة الشعر..

ونستند في قولنا هذا إلى ما قرأنا عن المتنبي أنه كان نظم أول أشعاره وعمره تسع سنوات فقط، أي في السن التي يبدأ فيها بعض الصبيان القراءة والكتابة.

شاعر الطموح وشهيد المجد

كان المتنبي شاعر الطموح وحُبّ الظهور، تواقًا إلى المعالي.. إلى السيادة والرياسة، متمنيًا للمجد حريصًا على العظمة، طامحًا للعرش، متطلعًا إلى الحكم.. وسعى في تحقيق مهمته هذه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.. ولكن حظه العاثر لم يحالفه، وخانه التوفيق، وأخطأه الهدفُ..

لقد سخر موهبته الشعرية العبقرية لتحقيق آماله وطموحاته:

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ

كأنهمو من طول ما التثموا مرد

كان ذا نفس دائمة الشبوب وعزيمة دائمة الوثوب، ظل مدى الحياة يغامر ويحتال ويكد ويكدح في سبيل نيل مبتغاه والظفر بطلبته، ولكن لم يقدر له النجاح فيما كان يتوق إليه من الحصول على الولاية والإمارة، فعاش معذبًا بين الطموح والعجز، مهموما بين الشوق والإخفاق، مكروبًا بين الرجاء والإحباط:

وفؤادي من الملوك وإن كا

ن لساني يُرى من الشعراء

وقد عبر عن طموحه – صراحة وإشارة – في كثير من أبياته:

وفي الناس من يرضى بميسور عيشه

ومركوبه رجلاه، والثوب جلده

ولكن قلبًا بين جنبيّ ما له

مدى ينتهي بي في مراد أحده

و:

أي محل أرتقي أي عظيم أتقي

وكل ما خَلق الّ لَهُ وما لم يخلق

محتقر في همتي كشعرة في مفرقي

ويقول:

لا بقومي شرفتُ، بل شرفوا بي

وبنفسي فخرت لا بجدودي

صبره على المحن

ككل عظيم وصاحب طموح، مر المتنبي بالمحن والخطوب، ولكنها لم تنل من همته، ولا زعزعت عزيمته، بل تلقاها بصبر واحتمال:

رماني الدهر بالأرزاء حتى

فؤادي في غشاء من نبالِ

فصرت إذا أصابتني سهام

تكسرت النصال على النصال

نفور المتنبي من الخمر

الخمر تعد من أحب الحبائب إلى كثير من الشعراء، فلطالما تغنوا بها، وزعموا ما زعموا في بيان فوائدها، ولكن شاعرنا لم يزل كارهًا للخمر أشد الكره، مبتعدًا عنها أشد الابتعاد، لأنه كان يرى أن الخمر لا تتفق وما تطمح إليه نفسه من المجد والعظمة، يقول:

لأحبتي أن يملئوا بالصافيات الأكوبا

وعليهم أن يبذلوا وعليَّ ألّا أشربا

حتى تكون الباترات المُسمعات فأطربا

بل كان يرى خوض المعارك أحب وأحلى من معاقرة الخمر، يظهر هذا في أبيات قالها لصديق له يعرف بأبي ضبيس، وهي:

ألذ من المُدام الخندريس

وأحلى من معاطاة الكؤوس

معاطاة الصفائح والعوالي

وإقحامي خميسًا في خميس

فموتي في الوغى عيشي لأني

رأيت العيش في أرب النفوس

ولو سُقِّيتُها بيدي نديمٍ

أسَرُّ به لكان أبا ضبَيس

صاحب السيف والقلم

بل يقول: ما لي ولمعاطاة المدام، ومصاحبة ربات الحجال وبنات الخدور.. فأنا أطوي الصحاري والفلوات غير عابئ بمهالكها، أحمل السيف في يد، والقلم في أخرى، ونلتقي ببيته الشهير:

فالخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

فهو لا يعرف للعيش الناعم معنى، ولا تستهويه حياة القصور، ولا يتمتع بالترف والثراء، إنه عاش في الصحاري وطوى الفيافي، واستأنس بوحوشها وحيواناتها، وتعود على الشظف والخشونة في العيش، وذاق كل ما حمض ومرّ، وصعب وعَسُر، وجاب الأرض، ومشى في الوديان، وتسلق الجبال، وألف الحياة الشاقة واستحلاها:

صحبت في الفلوات الوحش منفردًا

حتى تعجب مني القور والأكم

نعيه على التدين المغشوش

لقد أنكر على الزهد المصطنع، وعاب التدين الوضيع، وكره الصلاح الخادع:

أغاية الدين أن تحفوا شواربكم

يا أمة ضحكت من جهلها الأمم

الإبداع والمتنبي

 مما يفضل المتنبي على كثير من الشعراء، تميزُ شعره بالمعاني المبتكرة، والتعبيرات الجديدة، التي كان أبا عذرتها، وفارس حلبتها، فمن ذلك قوله في مدح كافور الإخشيدي، وكان أسود:

فجاءت بنا إنسانَ عين زمانه

وخلًت بياضا خلْفَها ومآقيا

ومن مبتكرات المتنبي قصيدته في وصف الحمى، والتي مطلعها:

وزائرتي كأن بها حياء

فليس تزور إلا في الظلام

والثعالبي عقد بابا (في يتيمة الدهر ١/ ١٥٧) تحت عنوان:

«ومنها الإبداع في سائر مدائحه».

وفي هذا الباب يوافينا الثعالبي بكثير من المعاني المبتكرة، التي سبق بها المتنبي من عداه من الشعراء، من ذلك قوله:

ذُكِر الأنامُ لنا فكان قصيدة

كنتَ البديعَ الفردَ من أبياتها

الشعر المُوَجَّه

كما نرى في شعر المتنبي لونًا آخر من الفن هو: «الشعر الموجه»، الذي يعني احتمالَ المدح والذم معا، وقد لفت ابن الأثير الأنظار إليه في المثل السائر، فمن ذلك ما قاله المتنبي في مدح كافور:

وما طربي لما رأيتك بدعة

لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب

فقال له ابن جني: يا أبا الطيب لم تزد على أن جعلته أبا زنة (قردًا).. فضحك المتنبي لقوله..

وفسر ابن الأثير هذا التفسير (الموجه) وهو المدح الذي يشبه الذم في قول المتنبي:

وأظلم أهل الظلم من بات حاسدًا

لمن بات في نعمائه يتقلب

وفي قوله لكافور أيضًا:

فإن نلت ما أملت منك فربما

شربت بماء يعجز الطير ورده

استعمل المتنبي هذا اللون من الفن الساخر اللطيف العميق المعنى في مدح كافور وهو يضمر له الاحتقار، فأتى بهذه الصور التي تحتمل المدح والذم معًا..

العفوية في شعر المتنبي

كان المتنبي شاعرًا لا يشق له غبار، وشاعرًا موهوبًا، ويا له من شاعر موهوب..

فمن هنا.. يمتاز شعر المتنبي بالسلامة من الصنعة والتكلف والاستكراه كليًا..، فتأتي إليه التعبيرات عفوًا، وتنقاد له الكلمات سهوًا رهوًا.. وتنهال عليه المعاني طوعًا، وهذا الذي يجعله شامة بين الكثير من الشعراء.. ويكفينا -مثالًا لذلك- بيته الشهير الذي يكون قد مر على القارئ مرات وكرات.. وهو:

فالخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلم

وكذلك قوله:

أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء

أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان

أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي

أنا ابن السروج أنا ابن الرعان

لو قرأت أيّا من هذين البيتين مئة مرة في وقت واحد، لما سئمت ولا ضجرت، بل -بالعكس- كلما كررتَ قراءته زدتَ متعة وتذوقًا وتأثرًا بحسنه وجماله، فانسيابية الكلمات وعفوية الألفاظ وتدفق التعبيرات وسهولتها قد جعلت البيتين يجريان على اللسان جريان الماء على الصفاة..

وهذان البيتان كمثال فقط، وإلا فهناك كثير من أمثالهما، مما يزخر به ديوان المتنبي

المتنبي وعزة النفس

كان المتنبي أبيا شاعرًا بقيمة الكرامة وعزة النفس، فكثيرا ما دعا إلى أن يعيش المرء حياة عز وكرامة، وكان يرى أن الموت بكرامة أفضل من حياة ذل ومهانة:

عش عزيزا أو مت وأنت كريمٌ

بين طعن القنا وخفق البنود

والمعنى متداول بين الشعراء جاهلية وإسلاما، فمنه قول الحصين بن حُمام المُرّي:

ولستُ بمبتاع الحياة بذلة

ولا مرتقٍ من خشية الموت سُلَّما

وقال ابن ميّادة:

فللموتُ خير من حياة ذميمة

ولَلْبُخْلُ خير من عناء مُطَوَّل

المتنبي والترغيب في نيل المعالي

يتفنن المتنبي في استنهاض الهمم، واستلفات الأنظار إلى ضرورة بذل أقصى الجهد في الحصول على المعالي، مؤكدًا على أن العلو بقدر الجد:

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

و:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

وتعظم في عين الصغير صغارها

وتصغر في عين العظيم العظائم

و:

ولم أر في عيوب الناس شيئا

كنقص القادرين على التمام

وفي الأبيات التالية يدعو إلى المجد والقوة، وعدم الاحتفال بالخطوب، بل يهيب بالمضي قدمًا كالسيف القاطع، ويسخر ممن يقدر على ذلك، ثم يضعف ويتقاعس ولا يصافح الخطوب:

ولست بقانع من كل فضل

بأن أعزى إلى جِدّ همام

وقوله:

عجبت لمن له قدٌ وحدٌ

وينبو نبوة القَضِم الكَهام

ومن يجد الطريق إلى المعالي

فلا يذر المطي بلا سنام

الشاعر الحكيم

لقد أصاب من قال: الحكمة وقف على من كابد الشوق وعانى الشدائد..

وحظ المتنبي من كلا الأمرين حظ وافر..

ومن هنا: تميز وزخر شعره بالكثير من المعاني الحكيمة، وجرت كثير من أبياته مجرى الأمثال، لأنه يتصل بالنفس الانسانية، ويردد آلامها، وينبع خلود حكمته من كونها: «تنطق عن خواطر الناس» كما قال القاضي الفاضل.

ومن ثَمّ.. سُمي بـ: «الشاعر الحكيم»، وهو جديرٌ بذلك كل الجدارة..

وقد اخترنا نبذة من أبياته الحكيمة:

أبلغ ما يطلب النجاح به ال

طبعُ وعند التعمق الزلل

ومن يك ذا فمٍ مرٍ مريض

يجدْ مرًا به الماء الزلالا

ما كل ُّ من طلب المعالي نافذًا

فيها ولا كلُّ الرجال فحولا

أفاضل الناس أغراضٌ لذا الزمنِ

يخلو من الهمّ أخلاهم من الفطن

إذا لم تكن نفس النسيب كأصله

فماذا الذي تغني كرام المناصب

وإذا كانت النفوس كبارًا

تعبت في مرادها الأجسام

وفيما يلي طائفة مختارة من حكم المتنبي وأمثاله، مكتفين في ذلك بمصراع واحد:

– مصائب قوم عند قوم فوائد

– ومنفعة الغوث قبل العطبْ

– إن المعارك في أهل النهى ذمم

– والجوع يرضي الأسود بالجيف

– إن النفيس غريب حيثما كان

حقائق صارخة في شعر المتنبي

لم يلَقَّبْ المتنبي بـ: «الشاعر الحكيم» إلا بأن الله أنطقه بما يصح أن توصف بكونها أقوالًا حكيمة، تنبني على الصدق والخبرة والواقعية، فلا يمكن رفضها أو الاستهانة بقيمتها مهما تَقَدَّم الزمان.. فالحقائق حقائق لا تبلى ولا تَقْدُم، ولا تؤثر عليها الأيام، فمن ذلك قصيدة المتنبي المشهورة، التي من أبياتها:

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

فما الحداثة عن حلم بمانعة

قد يوجد الحِلمُ في الشبان والشِّيَب

وكذلك قوله:

وما الخيل إلا كالصديق قليلة

وإن كثرت في عين من لا يُجَرِّبُ

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها

ولَبّاتِها فالحسن عنك مُغَيَّب

المتنبي وحساده

الحسد على قدر المجد والعظمة، فكلما كان الرجل عظيمًا.. كثر حساده، ولقي منهم كل مُرّ وشر، فكيف الشاعر في مثل قامة المتنبي وقده يكون سالمًا من حاسديه، إلا أنه لم يحتفل بهم، بل كان يرى نيلهم منه دليلًا على عظمته، والبيت التالي يمثل موقفه من حساده خير تمثيل:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأنّي كامل

المتنبي والمرأة

نظرة المتنبي إلى المرأة تكاد نظرة سلبية تماما، فعدم الوفاء من جبلتها، فكأن غدرَها وفاؤُها.. فإذا غدرت، لم يكن في ذلك ما يدعو إلى العجب، فإن طينتها عجنت بنقض العهد، وإن حقدت.. فالأمان والحفيظ.. ولكن إذا رضيت لم يوجد للحقد أثر في قلبها.. فهي مخلوق غريب يجمع من المتناقضات ما يدع ذا اللب حيران..

ولكن مع ذلك كله.. مع هذا الخلق المتقلب والمزاج المتلون.. تستهوي أشدَ الناس تماسكا أمام المغريات، وتفتنهم بفتنتها، فيقع كثير من أهل الصلابة والقوة في حبالتها، ويكونون فريسة الهوى رغم استنكارهم لخصائص المرأة المزاجية:

إذا غدرت حسناء وفت بعهدها

فمن عهدها أن لا يدوم لها عهد

وإن عشقت كانت أشد صبابة

وإن فركت فاذهب فما فركها قصد

وإن حقدت لم يبق في قلبها رضا

وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد

كذلك أخلاق النساء وربما

يضل بها الهادي ويخفى بها الرشد

ولكن حبا خامر القلب في الصبا

يزيد على مر الزمان ويشتد

مالئ الدنيا وشاغل الناس

نعم. ملأ المتنبي الدنيا بشعره، وشغل الناس بذكره، فسار سير الشمس، وانتشر انتشار نور القمر، وطبق الآفاق، واحتفى بشعره السابقون واللاحقون، والمتنبي نفسه كان أدرك قيمة شعره، وعظمة مكانته، فقال – وكان له الحق كل الحق أن يقول ذلك:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

و:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي

إذا قلت شعرًا أصبح الدهر منشدا

 * * *

هذا غيض من فيض.. وقطرات من بحر المتنبي الشعري الزخار، وومضات على خصائص من شعره لفظا ومعنى، بالاقتصار على حسناته، غير متعرضين لهناته، فكل يؤخذ منه وعليه، مهما سبق وبذ أقرانه، ومهما أتى بالمعجز المدهش في مجال تخصصه، فالنقص من صفات البشر، إلا المعصوم الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.

(الأربعاء: ٢٧ من ذي القعدة ١٤٤٥ھ – ٥ من يونيو ٢٠٢٤م)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى