بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: الشخصية الأسطورة.. مولانا أبو الكلام آزاد (1)

[أيها القراء الكرام!

السلام ورحمة الله وبركاته

كل عام وأنتم بخير..

وبعد. فبمناسبة ذكرى تحرير الهند: (١٥ من أغسطس ١٩٤٧م) أستميحكم عذرًا في إعادة مقالي عن أحد أبرز قادة حركة التحرير: مولانا أبو الكلام آزاد، الذي كان له دور رئيسي في حركة تحرير الهند.

ولعل الإعادة تُذكّر الشباب بالتضحيات العظيمة، التي قدمها مولانا آزاد وغيره من المناضلين معه في سبيل تحرير البلاد من نير الاستعمار].

حلف الزمان لَيأتيَنّ بمثله

حنثت يمينك يا زمان فكفر

 آزاد أعرف من أن يُعَرّف..

 آزاد كان أمةً وحده!

 آزاد انتزع أعظم الإعجاب وأروع التقدير من الأصدقاء والأعداء على السواء.

كان له الحق -كل الحق- أن يردد قول المعري:

وإني وإن كنت الأخير زمانه

لآتٍ بما لا تستطعه الأوائل

بمجرد ذكر اسم [مولانا أبو الكلام آزاد] تَبادر -عفويًا- إلى ذهن الإنسان كلمات: «العظمة» و«العبقرية» و«العصامية» و«الوطنية» و«التضحية» وما إلى ذلك!

ثم لا يُدرى أن أية صفة من هذه الصفات تفضل أختها.. حيث تكاد كل منها تتكافأ وتتسابق.. فتُرى في القمة، وتلامس السماء علوًا.

وليس هنا موضع التفصيل في شرح هذه الصفات، فكل صفة منها تحتاج إلى سِفْر، وهذا المقال لا يتسع لأكثر من سطور.

حقا.. لقد كان آزاد من العظمة والسمو بمكان، لو حاول راءٍ – رافعا رأسه – رؤيته، لسقطت قلنسوته… [حسب المثل الأردي].

إن مجرد تصور: «هذه الشخصية» يمثل بل يجسد: «العظمة» في مخيلة الإنسان، فكأن «العظمة» و«آزاد» شيئان متلازمان، لا يُذكر أحدهما إلا ويخطر على البال ثانيهما، ولعل الشاعر الأردي عنى آزاد وأمثالَه، ببيته المشهور:

ہزاروں سال نرگس اپنی بے نوری پہ روتی ہے

بڑی مشکل سے پیدا ہوتا ہے چمن میں دیدہ ور پیدا

ترجمته: [إن النرجس يبكي فقدانَه النورَ وحرمانَه الضياء آلافا من السنين.. فلا تنبت الحديقة عملاقًا صاحب النظر إلا بعد لأي…].

رجل بأمة

الحقيقة أن مثل: «آزاد» لا يجود به الزمان إلا نادراً..

ولعلي إذا قلتُ: إن «آزاد» كان [نابغًا] أو [عبقريًا] ما أنصفتُ الرجل، ولا وصفته بما يستحقه.. فكان آزاد أكبر من «النابغة» وأعظم من «العبقري»، فنبوغه لم يكن نبوغًا عاديًا، وعبقريته لم تك كعبقريات الآخرين.. فكلمة «النبوغ» أو «العبقرية» لا تمثل شخصية:” آزاد ” تمثيلًا صحيحًا دقيقًا..

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

لو زرتَه لرأيتَ الناس في رجلٍ

والدهرَ في ساعةٍ والأرض في دارٍ

فردٌ وحيد يراه الناس كلُّهُمُ

كأنه الناسُ طُراً وهْو إنسانُ

فالكاتب حيران.. ماذا يأخذ وماذا يذر من حياة صاحبنا؟

على أننا إذا اختزلنا صفات: «آزاد»، حصرناها في صفتين رئيسيتين بارزتين: «العبقرية» و«العظمة»، فقد حباه ربنا من هاتين الصفتين بقدر، قلما حبا منه أحدا غيرَه من معاصريه.. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

سر عظمة آزاد

حينما تدبرت في سر عظمة شخصية «آزاد».. وكيف أنها -شخصية آزاد- حازت «العظمة» من جميع أطرافها، وحوتها من جوانبها الأربعة.. فلم احتر كثيرًا في اكتشاف السر.. إنه سِرّ سهل الانكشاف.. وليس أحجية يستعصي فَكُّها على الحل، أو لغزًا يُعْيي أمرُه كبارَ الأذكياء..

إذًا.. فما هو السر في عظمة شخصية «آزاد» يا ترى؟؟

إن سر عظمته يكمن -عندي- في كونه مَكّي الولادة.. فقد كان ولد في «أم القرى»، التي تتشرف بكونها مولدًا لأعظم العظماء مفخرة الإنسانية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي منه تبدأ وإليه تنتهي عظمة كل عظيم من عظماء البش!

فهذا العظيم [آزاد] ولد حيث ولد سيد البشر، وقضى فجر حياته حيث كان فجرُ الإسلام وصبحْه.. في مكة المكرمة التي أنجبت أعظم إنسان وأكمل البشر سيدنا محمدًا صلى اللـه عليه وسلم..

فمن هنا.. استمدت شخصية «آزاد» شموخ عظمتها.. العظمة التي اضمحلت أمامها عظمة الكثير من العظماء وتضاءلت.. ولا عجب في ذلك.. فعظمة مكة لا تبارى.. والمولود بمكة -لا شك- عظيم البركة والخير، حسن الطالع سعيد الحظ.. ويا له من حظ!

شخصية جامعة

إن الذي يتصدى للكتابة عن شخصية كشخصية «مولانا آزاد»، مهمته ليست بسهلة، فالكاتب عنها في محنة.. ماذا يختار وماذا يترك منها؟

لأن «أبا الكلام آزاد» ليس اسمًا لشخصية «مفردة»، بل إنها عبارة عن شخصية «فردة»، «فذة»، جامعة لشخصيات عديدة، كل منها شخصية في حد ذاتها.

فكان مولانا أبو الكلام آزاد «مفسرًا»، و«عالمًا ضليعًا»، و«بطلًا من أبطال الحرية»، و«زعيمًا سياسيًا»، و«ذكيًا من أذكياء العالم»، و«كاتبًا»، و«أديبًا»، و«صحفيًا»، و«فيلسوفًا»، وخبيرًا بفن «الموسيقى» ودقائقها، ومجيدًا في اللغتين الفارسية والإنجليزية فضلًا عن الأردية، التي كانت لغته الأم، وكان أحد أدبائها المبدعين المعدودين، الذين لا يشق غبارهم ولا تُبلغ ذُراهم!

ثم لم يكن مولانا آزاد ملما بهذه الجوانب -المشار إليها آنفًا- فحسب، بل كان متمكنًا منها، متخصصًا فيها، من أصحاب القدح المعلى فيها، الذين يشار إليهم بالبنان.

إذًا الحديث في نواحي حياة مولانا آزاد كلها في مقال صغير كهذا -ولو بإيجاز- امتحان -في حد ذاته- للكاتب، ولكن: [ما لا يدرك كله، لا يترك جله] -كما قال ابن المقفع-… فسأحاول أن أتناول بعض النواحي من شخصية صاحبنا بكلام وجيز.. على غير ترتيب خاص قصدته..

مولانا آزاد مفسرًا

كان القرآن الكريم على رأس اهتماماته العلمية والدينية منذ شبابه، يقول في مقدمة تفسيره «ترجمان القرآن»:

«أخيرا أرى أن أسجل كلمات بخصوص هذه السلسلة الكاملة من الترجمة والتفسير.

لقد ظل القرآن الكريم موضوع فكري ونظري.. -في نهاري وليلي- عبر سبع وعشرين سنة كاملة، وقد قطعتُ الأودية -منه- سورة وسورة، آية وآية، مكانًا ومكانًا، كلمة وكلمة، ومرحلة بعد مرحلة، وأستطيع أن أقول إن معظم ما يوجد من التفاسير والكتب -المطبوع منها والمخطوط- قد مر بنظري».

اخترت هذه السطور بالذات من مقدمة تفسير مولانا آزاد، ليعلم القارئ بصلته بالقرآن الكريم وشغفه به، وغرقه في بحر معانيه فهمًا وتدبرًا، ودراسته الواسعة لكتب التفسير، وكفى بذلك دلالة على صلة مولانا آزاد العظيمة العميقة بكتاب الله تعالى.

أما خصائص «ترجمان القرآن» المختلفة، فلا يمكن تناولها -ولو بإيجاز- في هذا المقال الوجيز، ولعل الله يوفقني أن أفرد مقالا لبيان خصائص تفسير مولانا آزاد.

على أنه لا مناص من الإشارة إلى بعض خصائص تفسير آزاد، وهي أن آزاد ركز -بصفة خاصة- على الناحية الجمالية في القرآن الكريم، فالقارئ حينما يمر بهذه الأمكنة من تفسيره، فيشعر كأن جمال الكون وما أودعه الله من الحسن والروعة والزينة يتجلى -كأجمل ما يكون- في الآيات التي تتعرض لبيان ذلك، فريشة قلم آزاد -المفسر- البارع تصور للقارئ مناظر ومظاهر جمال الكون المبثوثة في الأرض والسماء أحسن وأروع ما يكون التصوير، تصويرا ناطقا حيا، يتجلى فيه روح القرآن، وجمال الفطرة وحسن الطبيعة بأسلوب بديع وبيان ساحر.

 مولانا آزاد خطيبًا

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خروا لعزة ركعًا وسجدًا

وأما خطابته.. فحدث عن البحر، ولا حرج..، فلعلها من أبرز -أو أبرز- مكونات شخصيته، ورافعات قده وقدره، ومن أعظم ما حببه إلى الجماهير، وجعلها مفتونة بسحر شخصيته، ومبهورة بعظمته.

فلقد عرفه الناس «خطيبًا مصقعًا» لا نظير له في عصره، وكان سخر موهبته الخطابية لتحريك العواطف الوطنية في صدور مواطني الهند، وملأِ قلوبِهم كراهية وغضبًا ضد المحتل.

يقول الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله مشيدًا بملكة آزاد الخطابية:

«لعل بلدا -خارج / غير الهند- لم ينجب خطباء هائلين مجلجلين يضارعون مولانا آزاد في خطابته الساحرة وقوته الكلامية وقدرته البيانية».

مولانا آزاد زعيمًا لحركة الاستقلال

لحا الله ذي الدنيا مناخًا لراكبٍ

فكل بعيد الهم فيها معذب

إن مساهمة مولانا آزاد في حركة تحرير البلاد من براثن الاستعمار، لم تكن على الهامش، أو كالمتفرج.. الذي يتمتع بمشاهدة المناظر أو الأدوار التي تُلعب وتمارَس على المسرح أو المنصة، وإنما كانت مساهمة قيادية فاعلة موغلة في صميم الكفاح، فقد كان من طليعة قادة حركة التحرير، وكان له فيها حظ الأسد، ولا شك أن تاريخ حركة التحرير في الهند يكون ناقصًا مبتورًا إذا خلا من ذكر بطولة مولانا آزاد وصنائعه وتضحياته، فقد أبلى في ذلك بلاء حسنا، وعانى من السجن وتقييد حركاته وتنقلاته، والتضييق والتشريد و.. و.. ما عانى.

في سنة ١٩١٦م تم حبسه -لأول مرة- في بيته، ثم زج به في السجن ست مرات إلى ١٩٤٥م، وهكذا قضى في السجن عشر سنوات مجموعةً، على أن السجن لم يستطع الحدّ من قوة ثباته، أو زلزلة صموده، أو إطفاء جمرة عزمه أو لهب بطولته، بل زادها اشتعالًا ونارها ضرامًا:

لا تزدر الليث الحبيس فربما

عادت (وقد شهد الوغى) وثباته

ولم يكن مولانا آزاد يقضي وقته في السجن نائمًا أو عاطلًا عن أعماله الروتينية القِرَائيّة والكتابية، بل إنه كان من المؤمنين بنظرية من قال: «أنا لا أحب النوم ولا أستريح إلى الراحة»، فراحة العاملين الجادّين في عدم الاستراحة.

فكان مولانا آزاد ملتزما بالتقيد ببرنامجه اليومي في السجن، التزامه به خارج السجن، وكان لا يحيد عن ذلك قيد أنملة، فكان يستيقظ – في السجن أيضا – في الصباح الباكر كعادته الدائمة في سفره وحضره، وأول ما يستيقظ يغتسل، حتى يُبعد عنه الكسل وأثر النوم، ثم يُعِدّ الشاي -بنفسه- إعدادًا خاصًا، وطريقته أن ورق الشاي يُلقٰى أولا في الإبريق، ثم يُلقٰى فيه الماء المغلي، ثم يغلق فم الإبريق غلقًا محكمًا، ويُترك عدة دقائق، ثم يُفتح الإبريق، ويُحَرّك الشايُ بالملعقة، ثم يغلق مرة أخرى، وبعد ثوان يُصب منه في الفنجان، ويسمى هذا الشاي -لدى أصحاب الذوق- بـ«دم كي چائے» في الاصطلاح الأردي، وكان مولانا لا يستعمل إلا السكر الصيني المقطع قطعًا صغيرة مربعة، وكذلك «ورق الشاي» الممتاز، فكان له ذوق سامٍ لطيف في ذلك، حيث كان يستقدم من آسام أعلى أنواع الورق وأغلاه.

ثم كان يبدا شرب الشاي، ولا يكتفي بفنجان واحد.. بل يشرب فنجانين.. وبعد أن يكمل نصابه ويرضي عادته من شرب الشاي، كان أعظم ما يكون خفة روح، و نشاط ذهن، و نضارة فكر، وكمال استعداد للقراءة والكتابة، فيقبل عليهما، فينطلق بل يجرى قلمه بسرعة:” كنكورد “، فينثر اللآلى والدرر على القرطاس، ويكتب الصفحات تلو الصفحات، وكلها آية في الإبداع الإنشائي، والروعة الكتابية، وما «غبار خاطر» إلا من إبداعات «السجن» بقلعة «أحمد نجر»، فهذا الكتاب من أروع ما دبجه يراع مولانا آزاد، وآخر ما صدر عن قلمه السيال، و يحتوي رسائل وجهها مولانا من السجن إلى صديقه الشيخ حبيب الرحمان خان الشيرواني، والحقيقة أن مولانا خاطب صديقه -عبر هذه الرسائل- في عالم الخيال، أودعها خواطره، التي كان يفيض بها خاطره في السجن، وجعل هذه الرسائل وسيلةً للتسرية عن نفسه، و تخفيفِ وطأة الظروف، فبالبوح بما تعاني النفس -مما يقلقها من الهم والغم- شفاء وترويح للقلب، ومن ثم.. سمى مجموعة الرسائل هذه «غبار خاطر»، أي حاول بها إزالة غبار الخاطر والتنفيسَ عن القلب، والرسائل هذه -إلى كونها نماذجَ عالية من الأدب والبيان، وجديرةً بالاحتذاء والتقليد- من أروع ما يجلي عبقرية مولانا آزاد، ويظهر قدرته الأدبية والفنية، ويكشف عن دراسته الواسعة وذاكرته العجيبة وذكائه الخارق، حيث كان لا يعتمد في كتابة الرسائل إلا على ذاكرته، فلم يكن هناك -في السجن- من الكتب أو المراجع ما يرجع إليه.

والحقيقة أن هذه الرسائل كانت بمثابة المذكرات، ومعلوم أن كتابة المذكرات وتعبير الإنسان عما يحسه او يمر به يمثل حالة استشفائية.

 مولانا آزاد قائدًا

قال بعض رجال الإصلاح والتربية:

«الزعماء ثلاثة: زعيم صنع نفسه، وزعيم صنعته الظروف، وزعيم صنعه الله على عينه، يحمل الرسالة، ويوقظ الأمة، ويحمل راية الإسلام، ويهتف بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحمل رسالة السماء».

المطلع على حياة مولانا آزاد، والقارئ لترجمته بحياد، لا يسعه إلا أن يصنفه ضمن النوع الثالث من أنواع القادة الثلاثة المذكورين فيما أعلاه، فقد قيضه الله في حينه ومكانه المناسبين، ليضطلع بأعباء مهام، ما كان ليقوم بها أحد غيره، لأن الله تعالى أعده لها وقدر له القيام بها بتقديره الحكيم، و-مِن ثَم- خصه بكفاءات ومواهب غير عادية، لا يهبها إلا من أراد به نفعا عظيما لعباده.

فمن هنا.. يُعتبر آزاد قائدًا عظيمًا جليلًا، له ميزة وفضل على غيره من القادة والزعماء، حتى قيل إن مولانا آزاد أعظم قائد ظهر في الهند وما جاورها في العصر الأخير، وكانت الهند -على بكرة أبيها- قد أجمعت على التسليم بقيادته إجماعًا قلّما يتفق لأحد، فأهل الهند كانوا اتفقوا على ما خصه الله به من المؤهلات القيادية، ما لا يحظى به قائد إلا نادرا، وكان كبار زعماء البلاد -من الهندوس والمسلمين- يستشيرونه ويستنيرون بآرائه في أهم القضايا، فكان يمدهم برأيه فيها -لساعته.. وبدون إعمال فكر- مما يجعلهم يؤمنون بما وُهِب من عمق النظر، وسرعة الفهم، ونفاذ الفكر، وسعة الإحاطة، وقوة البصر، وحدة الخاطر، وسداد الرأي.

إن آزاد لم يكن رجل السياسة، وإنما كان رجل العلم، ودُودَ القراءة والكتابة، أعتقد أنه يكون دخل السياسة على مضض، لا طائعًا راضيًا..، لأنه لما رأى وطنه محتلًا، تطأ أرضَه أرجل الأجنبيين، وينهب خيراته المحتلون، شعر بأن عليه واجبًا مقدسا يفرضه عليه دينه، وتْحتّمه عليه وطنيته، واجبَ تطهيرِ بلاده من الاحتلال الغاشم، فعليه مسؤولية مزدوجة.. دينية ووطنية.

جناية السياسة على العلم والأدب

فمن هنا.. دخل السياسة، وخاض المعركة.. وجند جميع قواه ومواهبه لتحرير البلاد، فظل يناضل ويكافح ما لم يحرر الوطن.

فمن أجل وطنه، ولصالح بلاده، ضحى بما جُبِل عليه من عشق العلم، والغرام والهيام بالكتاب، وفضل وطنه على الاشتغال بالعلم، ودخل معترك السياسة، بل في تعبير أصح: تفرغ لخدمة وطنه، وجعل همه الرئيسي وشغله الشاغل: الوطن.. والوطن..، وكان دخوله السياسة أو قل: مساهمته في حركة تحرير البلاد خيرًا عظيمًا لسياسة بلاده، وبمثابة وقود تنشيط لحركة التحرير.

ولا شك أن مولانا آزاد كان قوة مؤثرة في سياسة البلاد، اكتسب هذه القوة بعبقريته، وعظمته الشخصية، وموقفه الحاسم الرافض للاحتلال.

ولكن -هناك- حقيقة أخرى مُرة.. يجب أن تسجل ويصرح بها.. أن خوضه في السياسة نفعها، فقد وجّهها بثاقب نظره، وبصيرته الفذة، وبهمته العالية، وكان يَعتبر توجيهَ بلاده -عبر السياسة وخوضه في معركة التحرير- حقًا لوطنه عليه، ولا شك أنه بذلك أدى حق الوطن عليه، والوطن -بدوره- مدين له في تحرره من الاستعمار، الذي كان يئن تحت نيره، ويظل يشكر له صنيعته هذه مدى الدهر.

 في مقابل ذلك حقيقة أخرى -أيضًا- لا ترفض.. وهي أن مولانا آزاد قد أحسن إلى بلاده حينما قرر دخول السياسة، ولكنه لم يحسن إلى نفسه أو إلى الحركة العلمية والأدبية، فبقدر ما ربحت البلاد من دخوله السياسة، خسرت حركةُ العلم والأدب من حرمانها الاستفادة من نتاجه العلمي والأدبي، فدخول آزاد السياسة وقف سدًا منيعًا أمام رحلته العلمية، ومنع قلمه من نثر الدرر، وإثراء المكتبة الإسلامية بما كان أفاض الله عليه من التدفق المعرفي والنبوغ العقلي، والابتكار القلمي.

فمن ثَم نستطيع أن نقول إن السياسة جنت على العلم والأدب، وتلك خسارة أي خسارة للساحة العلمية والتيار الأدبي.. وإن لله في شؤونه حكمة.. وكل شيء بتقدير العزيز الحكيم العليم.

وكان آزاد نفسه شاعرًا بهذه الخسارة المزدوجة – على نفسه وعلى العلم والأدب – مدركًا لجسامتها، فيقول معترفًا بذلك:

“كما أن الشاعرية اختارت «غالب» (١) لنفسها، كذلك اكتشفته (يعني نفسه) الأشغالُ السياسية”.

فما كان له أن يتجاهل مقتضياتها، ولكن -باشتغاله بالسياسة- لم يستطع أن يقدر «عبقريته» حق قدرها، ويفيد منها كل الإفادة “.

يقول بعض أصحاب العلم والنظر أن مولانا آزاد لو لم يدخل السياسة لكان من أبرز أعلام العلماء لا من تاريخ الهند.. بل من تاريخ الأمة كله، ولكن مشيئة الله غلبت.. وهو فعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل.

الهوامش

(١) لقب شاعر هندي كبير، اسمه: مرزا أسد الله خان غالب (١٧٩٧ -١٨٦٩م).

يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى