بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: العلامة أنور شاه الكشميري

العلامة أنور شاه الكشميري (١٢٩٢ھ – ١٨٧٥م = ١٣٥٢ھ – ١٩٣٣م)

«دار العلوم / ديوبند» ليست اسمًا لمؤسسة تعليمية عادية.. وما أكثر أمثال هذه المؤسسات والمعاهد في جميع أنحاء البلاد.

وحاشا أن أقلل من قيمة هذه المؤسسات والدور التعليمية، أو استهين بشأنها، فلا يمكن أن يخطر شيء من ذلك ببال أي مسلم في قلبه مثقال ذرة من الإيمان أو الغيرة الدينية والحمية الإسلامية والاهتمام برفعة الإسلام والمسلمين.

 ولكن الذي أريد أن أقول: هو أن «دار العلوم ديوبند» شامة بين هذه المدارس والمؤسسات التعليمية، وواسطة عقدها، وبيت قصيدها، وغرة جبينها وتاج رأسها.

  فهو اسمٌ (اسم دار العلوم دیوبند) يُعتز به، ويفتخر بالانتساب إليه. وهذا العز والفخار لم تنله دار العلوم ديوبند جزافاً، بل وراءه رصيد من العزائم والبطولات، وتاريخ حافل بالإنجازات والمكارم.

  وإذا قلت: إن عز دار العلوم عز يفتخر به العز نفسه، وفخارها فخار يفتخر به الفخار ذاته … لم أكن مبالغاً!

  انه عز بلغ الجوزاء، وعلا علو السماء.. لأنه -عز دار العلوم- لم يحصل إلا بفضل رب السماء، وأتى عن جدارة واستحقاق.

{ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٌ } (فصلت : ٣٥)

إن صنائع دار العلوم وفضائلها وجهودها وجهادها – في سبيل الكفاح الوطني، وعنايتها بتوظيف العلم والدين لصالح الأمة، وتسخير وسائلها وإمكانياتها لإصلاح البشرية – معروفة مسجلة بمداد من النور والخلود، والشهادة العالمية:

صنائع فاق صانعها ففاقت

وغرس طاب غارسه فطابا

إنها -دار العلوم- أنجبت شموساً وأقماراً ونجوماً وكواكب في سماء العلوم والمعارف الإسلامية، يتلألأ بهم تاريخ الأمة، وتزداد هامتها شرفًا وفخرًا.. وإن لدار العلوم الحق كل الحق أن تفتخر بأبنائها مرددة قول الشاعر العربي -بتعديل-:

هؤلاء أبنائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

إن مثلها كمثل الأم العربية التي قد فخرت غاية الفخر حين رأت أبناءها الماجدين متماثلين، لا تستطيع تفضيل واحد منهم على أخيه، فقالت عنهم -وهي مغمورة بنشوة الفخر والإعجاب-: «هم كالحلقة المفرغة، لا يدري أين طرفاها».

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم

مثل النجوم التي يسري بها الساري

ولكن رغم هذه الحقيقة الواضحة النيرة كالنهار الساطع..  هناك أفذاذ وعباقرة -من أبناء دار العلوم- يصدق فيهم قول الشاعر:

كأنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهن كوكب

 ومن بين هؤلاء العباقرة العظام الذين استفاض ذكرهم على الألسنة، وعظمت مكانتهم في الأفئدة، ذلك الرجل الفذ الذي وصفه بعض الكبار بأنه «كان آية من آيات»، و«حجة الله على العالمين» وهو العلامة المحدث أنور شاه الكشميري رحمه الله تعالى الذي كان له الحق -كل الحق- أن يتمثل بقول الشاعر:

إني وإن كنت الأخير زمانه

لآت بما   تستطعه الأوائل

جوانب من نبوغه، ونبذة من أرائه وأقواله

 إن حياة العلامة الكشميري أجل وأشمل من أن يتسع لها سفر ضخم فضلاً عن مقال صغير لا يتجاوز صفحات، فلا يمكن للكاتب مهما أوجز أن يتحدث عن ناحية واحدة من نواحي حياته الخصبة، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله.. أحاول أن أتحدث عن بعض نواحي نبوغه، كما أذكر نبذة من أقواله وآرائه.

الدراسة الواسعة مع دقة النظر:

 كان العلامة الكشميري -رحمه الله تعالى- أحق وأجدر بأن يسمى: «المكتبة الجوالة»، فقد كان -حقاً وصدقاً- مكتبة متنقلة بمعنى الكلمة، فكان ذا دراسة واسعة شاملة يندر نظيرها في صفوة المتأخرين من العلماء.

لقد كانت المطالعة روحه وحياته وهوايته المفضلة، التي لا يعدل بها أيِّ هواية أو كيف، فمما استفاض وتواتر – مما يدل على نهمه بالقراءة – أنه حينما اشتدت عليه الأمراض في آخر عهده بالحياة، وبلغ الضعف منتهاه.. ولكن المطالعة وقراءة الكتب لم تزل مستمرة ولم تقل ولم تضعف.. فمنعه الأطباء من ذلك، وحذروه قائلين بأن المطالعة تزيد في المرض، فقال: «يا إخوان! إن المطالعة في حد ذاتها مرضي المزمن الذي لا علاج له». فالحق أن الشغف (بالعلم) كان من سوسه.

والحقيقة أن سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى كانوا كذلك.. فلقد كان علاجهم في مطالعتهم لا في تركها، وقد قرأنا قصة مشابهة للإمام ابن تيمية رحمه الله يقول: «ابتدأني مرض، فقال لي الطبيب: إن مطالعتك وكلامك في العلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى علمك، أ ليست النفس إذا فرحت وسرت قويت الطبيعة، فدفعت المرض؟ فقال: بلى! فقلت له: فإن نفسي تسر بالعلم، فتقوى به الطبيعة، فأجد راحة فقال: هذا خارج عن علاجنا» {لا تحسبوه شرًا لكم، بل هو خير لكم}.

لعل عتبَك محمود عواقبه

فربما صحًت الأجسام بالعلل (١)

الاطلاع الواسع على الثقافة الغربية

 لم تكن تقتصر دراسة الشيخ الكشميري على العلوم الإسلامية فقط ، بل كان حريصاً – أيضاً – على الاطلاع على الحضارة الغربية وعلومها وآدابها، فكان يطالع ما كان يصدر -من مصر- من كتب ألفت -حديثاً- أو نقلت إلى العربية، تتحدث عن الاكتشافات الجديدة، والدراسات والتحقيقات العلمية الحديثة، وكان معترفًا بما أحرزته أوربا من تقدم تقني باهر، ورقي صناعي مذهل، وما أحدثته من اكتشافات في مجال العلم والطبيعة، فكان ينظر إلى جوانب الحضارة الغربية النافعة نظرة تقدير واعتراف، فالحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها.

ومن هنا … كان يميل إلى قراءة «جواهر التفسير» للعالم المصري الطنطاوي والاستفادة من محتوياته رغم ما فيه من المستنكر المرفوض. (٢)

 وكان – إلى توسعه في المطالعة والدراسة – دقيق النظر ذا فكر عميق، فالقاصرون عن فهم فحوى كلامه يعتبرون معذورين، حتى كان الكشميري -نفسه- يقول:

«ربما أتنزل كثيرا (أي أحاول -قدر الإمكان-) استعمال أسهل أسلوب وأيسر تعبير مراعاة لمدارك الناس ومستوى علمهم المتدني الهابط..  ولكن – مع ذلك – لا يكادون يفهمون».

وهذا لا يعني أن أسلوب الشيخ كان يعتريه الغموض أو الإبهام أو التعقيد، بل إن ذلك يشير إلى مبلغ التفاوت الواضح ومدى البون الشاسع بين مستوى علم الشيخ الدقيق العميق ومستوى غيره من عامة أهل العلم.

وكذلك مما يدل على تعمقه العلمي ودقة نظره، ما قاله الشيخ نفسه عن نفسه:

«أبدأ القرآن الكريم في رمضان، وأريد إكماله في تدبر وتفكر.. ولكن لا تكتمل قراءته قط … ثم حينما أرى أن رمضان يكاد ينتهي، أترك طريقتي الخاصة، وآخذ في إكمال قراءة ما تبقى من القرآن الكريم». (٣)

(للحديث بقية)

الهوامش:

(١) لا تحزن للقرني: ٣١٢

(٢) الأنور: ٣١٨

(٣) أيضا: ٣٠٧

(ليلة الأربعاء: ١٧ من محرم ١٤٤٦ھ – ٢٣ من يوليو ٢٠٢٤م)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى