محمد نعمان الدين الندوي يكتب: «الغيرة الإسلامية» إلى رحمة الله!!
نعى الناعي إلى الأمة الإسلامية جمعاء: «الغيرة الإسلامية» التي انتقلت إلى رحمة الله بعد صراع مرير مع المرض..
لما سمعت الخبر، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون..
ولكن في بداية الأمر قبل أن أصدق الخبر.. أردت أن أتثبت منه وأتأكد.. وتمنيت: ليت الخبر يكون كاذبًا.. ودعايةً مضللة.. تهدف إلى تشويه سمعة المسلمين.. فإنها -الغيرة- مما يجعل المسلمين شامة بين غيرهم..
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
تعثرت به في الأفواه ألسنتها
والبُرُد في الطرق والأقلام في الكتب
ولكن الخبر – مع الأسف – كان صحيحًا .. لم يكن بد من تصديقه..
مع أن التصديق على الخبر لم يكن أمرًا سهلًا.. فقد كان أصعب وأشد على النفس من وقع أي مصيبة كبرى..
فإنها -الغيرة- كانت للأمة واسطة عقدها، وبيت القصيد، وكالغرة في وجه الفرس، والتاج على رأس الملك..
وإنا بفراق الغيرة لقلقون مضطربون متألمون.. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا..
اللهم ألهمنا الصبر والسلوان، وأحسن عزاءنا.. فالمصاب جلل.. والخطب فادح.
لقد كانت الفقيدة الغالية من كبرى خصائص الأمة، ومن أعز وأثمن وأغلى ما تتحلى به من الفضائل ومكارم الشيم..
إنها كانت جُنة وحرزا.. ووقاية وحماية.. وسلاما وأمانا..
فشرف الأمة وصيانتها وأمنها وسلامتها كانت في غيرتها..
فقد كانت – الغيرة – بمثابة «حارس من الضمير والخلق» يحفظ شرف الأمة، ويصون كرامتها، ويحمي حدودها .
فلقد كانت الراحلة تقف سدًا منيعًا دون الأعراض والحرمات والحدود..
فكانت لا تسمح بأن يحوم أحدٌ حول حمى الأمة بنية فاسدة.. ولا تسمح بأن يخطر على بال جانٍ الاعتداءُ على عرض أو حرمة.. أو الإساءةُ إلى كرامة مسلم أو مسلمة..
وهي – الغيرة – التي كانت تقض مضاجع الحكام وتطير نومهم وتسلبهم راحتهم عندما يجِدّ الجد وتتأزم الأمور وتحلق الأخطار على الأمة وتتعرض الحرمات للانتهاك..
فهي التي كانت حركت خليفة المسلمين المعتصم بالله الذي بلغه أن امرأة هاشمية أخذت تصيح عندما وقعت في أسر الروم: «وامعتصماه» فأقسم بالله بأن ينتقم من الروم، وأن يخرب مدينة عمورية، وتمكن المعتصم من اقتحام «عمورية» عنوة، وتخريبها وأسر من فيها، صور المعركة أبو تمام في قصيدته الخالدة، التي قالها في ذكر فتح «عمورية»، والتي مطلعها:
السيف أصدق أَنباء من الكتب
في حدّه الحدُّ بين الجِدّ واللعب
وإلى الماضي القريب كان المسلمون – والعرب منهم خاصة – لا يحتملون أدنى مساس بالعرض، أو أية إساءة إلى الحرمة والكرامة، وتثور ثائرتهم لأية إساءة – بل شبه إساءة – إلى الحرمة أو الكرامة، و لأية محاولة من المساس بحرمة امرأة مسلمة بصفة خاصة، فقد كانت عندهم حساسية مفرطة نحو عرض المسلمة، وقد ذكر الأديب الشهير علي الطنطاوي( م ١٤٢٠ھ ) في ذكرياته قصة تكفي دلالة واضحة على صفات الغيرة وإباء المذلة والضيم، التي كان يتحلى بها المسلمون إلى القرن المنصرم (العشرين)، ولعله يحلو لنا أن نذكر القصة لقرائنا الأفاضل،
وهي -فيما يلي- بقلم الطنطاوي البليغ:
«كنت أمشي مرة (في تلك الأيام) في حي العمارة، قرب الأموي، وكان الناس لم يفيقوا بعد من صدمة الهزيمة في ميسلون، ولم يألفوا منظر جنود الفرنسيين يطؤون بنعالهم مدينة معاوية وعبد الملك وصلاح الدين، فكانوا في شبه رعب منهم.
وكان جنود الفرنسيين لا يمشون إلا جماعات، فمرت امرأة مسلمة محجبة بالملاءة، فتعرضوا لها، ووقفوا في طريقها، فجعلت تتلفت مذعورة تستغيث، والناس ينظرون إليها وإلى الجنود المسلحين، وإذا ببياع كبير السن، قد اعترته حال كأنها الصدمة الكهربائية، فوقف ينادي نداء تحس منه لذع النار وفورة الدم :
ويلكم.. أما عاد فينا دين ولا شرف؟
ثم يأخذ العصا التي يفتح بها غلق الدكان، ويقفز (وكأني أرى مشهده الآن) ويهجم بها على الجنود المسلحين، وتستيقظ القوة المدخرة في أعصاب الناس، فيهجمون معه، يهجمون بأيديهم، فينزعون من الجند سلاحهم، وينقذون المرأة، ويرطن الجنود مستخذين متوسلين، يشيرون بالتوبة، فيدعهم الناس ينصرفون.
وكانت هذه كلها إرهاصات الثورة الكبرى، وكانت إحدى الدلائل على أن هذه الأمة أمة محمد، قد تغلب على أمرها حينا، ولكنها لا تذل أبدا».
(ذكريات علي الطنطاوي ١/ ١٠٠)
فالغيرة هي التي كانت تحمل على عاطفة الثأر والانتصار للممتحَنين من أجل العقيدة، ومسح دموع البؤساء والمنكوبين والمشردين والجوعى والمرضى والجرحى، وتصون الأعراض عن لصوص العار والشنار..
وهي – الغيرة – التي كانت أنطقت أبا بكر الصديق رضي الله عنه بكلمته الخالدة: «أينقص الدين وأنا حي»..
فقضى بها على فتنة الردة المشهورة..
وهي التي أغضبت الخليفة العباسي العربي الغيور هارون رشيد لوقاحة الرومي المتعجرف نقفور، الذي تجاوز الحدود في رسالته، فرده بخطاب ثائر قال فيه: «من عبد الله هارون إلى نقفور كلب الروم، أما بعد: فإن الجواب ما ستراه وليس ما ستسمعه» وجهز جيشه وسار إليه، ولم يبعث بالجواب إلا عند وصوله على حدود الروم، فكانت المفاجأة المذهلة للروم، وانتهت المعركة بالنصر المؤزر، واقتياد نقفور نفسه أسيرا.
فبـ: «الغيرة» شرفت الأمة وعزت، وتحصنت وأمنت وسلمت.. وبها كانت مرهوبة الجانب، محمية الأطراف، مصونة الأعراض..
وبدون (الغيرة) صارت الأمة مُعَرّضة لكل ما ينتهك حرمتها، ويمس شرفها، ويقضي على مهابتها، ويزلزلها من داخلها، ويهدد أركانها.. ويجعلها كيانا هشا نخرا..
ولعل في فقدان الأمة لهذه الجوهرة الكريمة – جوهرة الغيرة -إيذانا- بل إنذارا.. -بدنو أجلها كأمة حية محترمة موقرة كريمة.. فلا حياة لأمة -وللأمة الإسلامية بصفة أخص- إذا فقدت الحياء والشعور بالكرامة والحمية والحماية للمرتكزات والمبادئ والحدود.. وكل ذلك منوط بالغيرة.. وإذا فُقدت الغيرة.. فالسلام على الأعراض والحرمات والعفة والحياء والدماء..
فمن رام العزة والشرف و الصيانة والأمن والسلامة بدون الغيرة، رام المحال، ورائمُ المحال خابط، وطالب الممتنع خائب، ومرجعه إلى الخسارة والندامة .
وهذا ما نرى بأم أعيننا ما يجري في غزة من مآس يشيب لهولها الولدان وتتفطر لها القلوب..
ولكن كل ذلك لا يحرك ساكن سبع وخمسين دولة إسلامية.. فالظروف فيها عاديّة هادئة مطمئنة ساكنة..
وذلك لأن الغيرة والشعور والحس والحمية عادت كلمات جوفاء لا وجود لها في الواقع … وإنما هي توجد في المعاجم والقواميس…!
فتعيش الأمة الآن أذل عصورها، وأحطها وأسفلها هوانا وذلا.. وأسوأها بؤسا وشقاء..
وذلك لسبب وحيد.. لتخليها عن الغيرة والحمية..
فلا المال ولا المواهب العبقرية ولا الكثرة العددية تعوض عن الغيرة، ولا تغني عنها فتيلا..
في الماضي كانت استغاثة امرأة واحدة تكفي لتحرك الجيش الإسلامي بقيادة خليفة المسلمين نفسه، واليوم تستغيث الآلاف من النساء، ولا من سامع ولا مجيب، وتقتل الآلاف بل مئات الآلاف من الرجال والنساء والصبيان والشيوخ، وتهدم مدينة على بكرة أبيها.. على من فيها.. ولا من نخوة تثور.. أو دماء تفور.. أو حمية تُرى.. أو غيرة تجيش.. وكيف تجيش…؟ وقد نعاها الناعي…!!!
رحماك يا رب!
(ليلة الجمعة ٢٣ من شوال ١٤٤٥ھ – ٢ من مايو ٢٠٢٤م)