بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: حاضر الأمة بين ماضيها المشرق ومستقبلها المرجوّ

محمد نعمان الدين الندوي

هناك أمثلة متشابهة معنىً:

 «جاوز الحزام الطبيين»، (١) و: «بلغ السيل الزبى»، و: «جرى الوادي فطم على القرى».

يستخدم العرب هذه الأمثلة حينما تشتد الخطوب، وتبلغ الأزمات نهايتها الخطرة، حتى تصل الأمور فيها إلى حد، لا يمكن السكوت عليه، فينفد الصبر، وقد ينفجر المصاب بالأزمة قائلًا: «بلغ السيل الزبى». (٢)

فلا تستخدم هذه الأمثال إلا في الأوقات الحرجة التي تبلغ فيها من الخطورة بمكان، تكاد تنسد فيه للإنسان الطرق،

ويصعب -أو يستحيل- الانفراج عن مخرج، وتستحكم الأزمة بحيث لا يبقى للنجاة منها أمل..

 * * *

تصوروا محاصرة صهر الرسول صلى الله عليه وسلم سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه.. إذا قرأ الإنسان تفاصيلها لم يملك عينيه..

ويفقد السيطرة على دموعه.. بل يكاد يفقد شعورَه ووعيَه لهولها -تفاصيل المحاصرة- وبشاعتها ووحشيتها، فقد منعوا منه حتى الطعام والشراب..

هنالك.. حينما انقطع الرجاء من كل جانب، وخذل الجميع، وبلغت خطورة الأوضاع آخر مداها، وطفحت الكأس، وغلب اليأس، وفظع الخطب..

هنالك أرسل عثمان رضي الله عنه خطابًا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يُشْعِره بما كان فيه من الوضع الحرِج الدقيق، المهيب المروِّع الميؤوس منه، فقد عبر عن وضعه ذاك.. بـهذين المثلين: فكتب يقول:

[أما بعد. فإن السيل قد بلغ الزبى، وجاوز الحزام الطُّبيَين، وتجاوز الأمر قدره، وطمع فيّ من لا يدافع عن نفسه].

ففي مثل هذه الظروف وما يشابهها.. تستخدم هذه الأمثال..

* * *

وإذا قلنا إن الأمة المسلمة تمر -اليوم- بأوضاع غير عادية، يحق لها أن تتمثل فيها بهذه الأمثال.. ما عدونا الصواب..

فإنها أوضاع مأساوية – لعل – الأمة لم تمر بنظائرها إلا نادرًا جدًا..

فتعيش في ظلمات الخطوب والحروب والتحديات والمحن..

ووصلت إلى القمة في الذلة والمهانة..

 بل التعبير الأنسب: تدحرجت الأمة من القمة إلى أسفل سافلين.. ونزلت إلى أحط درجة من الصغار والضعة..

وسقطت من الثريا إلى الثرى.. وتداعت عليها الأمم تداعي الأكلة على قصعتها.. وفق تنبؤ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم..

تستباح دماؤنا.. حتى صار دم المسلم – الذي حرمته عند الله أعظم من حرمة الكعبة -.. أدنى وأهون من دم البعوض والنملة..

لم تعد له أي حرمة ولا قيمة ولا كرامة.. يسفكه من يشاء.. ومتى شاء.. وبمقدار يقدره ويرغب فيه.. وفي أي مكان شاء..

حتى يُسفك – دم المسلم – في بيته وأرضه وبلده.. وما مأساة بغداد عنا ببعيدة.. وهناك العديد من بلداننا، التي أوغل فيها العدو ففعل فيها ما فعل.. «البغاث بأرضنا يستنسر».

وهل هناك أضعف وأخزى وأسوأ من أن يهان المرء ويلاحق في بيته، ولا يأمن فيه على نفسه وعرضه وماله.. ويفقد فيه حريته وكرامته..

ولكن هذا واقع العديد – إذا لم نقل: الكثير – من بلداننا..

 * * *

آه.. ماذا جرى لهذه الأمة المرفوعة القدر؟

أين ذهب جلالها وعظمتها؟

اسألوا عن عظمتها بغدادَ الرشيد صاحب القصر المشيد والمجد الفريد..

وقاهرةَ المعز لدين الله مدينة الأزهر الشريف، ودمشق الفيحاء ذات غوطة المعروفة بالبساتين الغناء، وقصر الحمراء في غرناطة ذات جمال وبهاء،

وتاج محل الذي يعتبر أفضل جوهرة في البناء، ودرة يتيمة في الفن الإسلامي، وأحد أبرز تحف التراث البشري، التي هي محط إعجاب العالم بأسره.

وكانت الأمة – في أوج عظمتها – قد بلغت من مرافق الحياة ومباهجها ما أرادت وما تمنت.. وأخذت من العلوم والفنون بأعظم حظ ممكن،

لم يتيسر الوصول إليه لأي أمة مضت، فكانت لها جولات وصولات ونَفاق في سوق العلم والمعرفة،

وكان شباب أوربا يتلقون العلم في جامعات قرطبة وغرناطة وغيرهما، وكانت العواصم والحواضر بل المدن والقرى – من جميع أنحاء الرقعة الإسلامية – عامرة بالنوابغ والعباقرة والمبدعين..

فكان لها كل ما يرفع رأسها فخرًا وشرفًا، ويزيدها علوًا ورقيًا وازدهارًا…

ثم ما ذا حدث!

حدث ما نكس رأسها خجلًا.. وأسقط قيمتها في أنظار أهل الدنيا.. وأنزلها من العرش إلى الفرش.. ومن الجوزاء إلى الحضيض..

ولماذا حدث ما حدث؟

هل أصابتها العين؟ فعثر بها الحظ.. فعبس لها وجه الزمان.. وتجهم لها العصر.. وتنكر لها القدر بعد أن ابتسم لها طويلًا.. وحالفها الحظ قرونا كثيرة..

آه.. لعل سوء الحظ صار للأمة حليفًا.. وبها ملاصقًا.. ولها مكتوبًا.

انقلب الحال رأسًا على عقب تمامًا..

أرفع أمة أضحت أذل أمة..

يُستهزأ بها جهارًا نهارًا.. وعلنًا.. في المحافل الدولية، وعلى المنصات العالمية، وعلى الشوارع العامة، ومفترقات الطرق..

يُسخر من الإسلام ورموزه في الصحف والمجلات الحكومية.. وعبر السلطات والجهات الرسمية..

والأمة تسمع ذلك وتراه.. والغيارى من أبنائها يتحملون كل ذلك على مضض.. ولا يملكون حولًا ولا طولًا.. ويكتفون بالحوقلة والاستعاذة بالله من الشيطان..

كأن الدنيا على بكرة أبيها اصطلحت على معاداة الأمة، وأجمعت – ظلمًا وعدوانًا وبدون حق – على إضرارها وإذلالها.. بل على محق وجودها والقضاء على كيانها..

ولكن.. ولكن.. رغم هذه الظروف الكالحة السوداء، لا حاجة إلى اليأس والقنوط.. فالليل الغاسق يسفر عن الصبح المشرق، المبشر بالضوء يغشى الظلام وينشر النور..

والمسلم لا يعرف اليأس إلى نفسه سبيلًا.

فاليأس كلمة لا توجد في معجم التوحيد والعقيدة..

بل هو – اليأس – مشنع عليه أشد ما يكون التشنيع.. وممنوع منه منعًا أكيدًا..

فهو – اليأس – تلك الأرَضَة التي تنخر العزائم، وتهد الهمم، وتُقعد الفرد أو الجماعة عن النهوض بالمعالي، وتصيبها بمركب النقص..

ليس أعوق للأمة ولا أضر عليها من دعاة الإحباط واليأس، المثبطين للعزائم.

ولا داعي أبدًا – رغم الواقع المرير – للقنوط والإحباط، فكم مرة نهضت الأمة بعد الكبوة، – فمثلًا – قد هزمت الجيوش الصليبية، وهزمت التتار (الذين دمروا بغداد سنة ٦٥٦ھ، وخربوا العمران، وأفسدوا الديار) شر هزيمة بعد عامين فقط في معركة عين جالوت سنة ٦٥٨ھ ۔

فالأمة قادرة -بإذن الله- على النهوض بعد العثار، واستعادة المجد التليد بعد الواقع المخزي، ولا شك أن الأمم الحية تسترجع قوتها بعد الضعف، وتستعيد حركتها بعد خمود، يقول أحد أبطال النهضة الإسلامية عبد الرحمان الكواكبي:

“ينبغي أيها السادة ألا يهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم أسباب الضعف والفتور، كيلا نيأس من روح الله، وألا نتوهم الإصابة في قول من قال:

إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال: إذا نزل الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع….

فهذه الرومان واليونان والطليان واليابان وغيرها كلها أمم أمثالنا استرجعت نشأتها بعد تمام الضعف، وفقد كل اللوازم للحياة السياسية”، (٣)

فلنثبت بأعمالنا -لا بأقوالنا- أن المسلمين لم تمتهم الأحداث الثقال، وإنما أنامتهم ثم انتبهوا، وخدرتهم ثم انتعشوا،

ثم إن الرجال ـكما قال مفكر- كالمعادن لا تظهر قيمتهم إلا إذا وضعوا في النار، هنا يظهر الفرق بين الرجل الحديدي، والرجل القش،

بين الذي يموت واقفًا، والذي يعيش راكعًا، بين الذي يكبر في الشدائد، والذي يتضاءل في المحن والأزمات.

وقال بعض أهل العلم: إن الشدائد مهما تعاظمت وامتدت، لا تدوم على أصحابها، ولا تُخلَّد على مصابها،

بل إنها أقوى ما تكون اشتدادًا وامتدادًا واسودادًا، أقوى ما تكون انقشاعًا وانفراجًا وانبلاجًا عن يسر وفرح وهناءة، وحياة رخية مشرقة وضاءة،

فيأتي العون من الله، والإحسان عند ذروة الشدة والامتحان، وهكذا نهاية كل ليل غاسق فجرٌ صادق:

فما هي إلا ساعة ثم تنقضي

ويحمدُ غِبَّ السير من هو سائر

 وتقول العرب: “إذا اشتد الحبل انقطع” أي إذا تأزمت الأمور.. فانتظر فرجًا ومخرجًا..

غمرات ينجلين.. فإن لكل أزمة غاية.. وبعد كل حرج فرجًا، وإن مع العسر يسرًا:

وكل الحادثات وإن تناهت

فموصول بها الفرج القريب

 وفوق ذلك كله… هناك مبشرات بكون الأمة محفوظة من غزو خارجي يستبيح بيضتها، ويستأصل شأفتها، ففي حديث ثوبان -الذي رواه الإمام مسلم- يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

“وإن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة، وألا يسلط عليها عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، أو قال من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا”.

 وفي حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “اعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا”.

فالصبر -دائما- هو مفتاح الفرج، وأمل المسلمين – دائما – معلق بقول الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح: ٤).

ومن هنا… فإن القنوط بعيد -تماما- عن مخيلة المسلم الذي يعلم أن الأمر بيد الله، وليس للناس دخل في تسيير الأقدار.

والخلاصة أن الثبات والصبر، والطاعة لله ورسوله، والاتحاد والتضامن، والحمية والغيرة، والعمل والجد، والإعداد حسب المستطاع من أسباب العز والغلبة والفتح والانتصار.

بينما التمرد والعصيان والقنوط والإحباط والاختلاف والافتراق، والكسل، والفتور، والكبر والغرور من أسباب الفشل والذل والهوان.

وصدق الله العظيم حيث يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: ١١).

عسى وعسى يثني الزمان عنانه

بدور زمان والزمان يدور

فيعقب روعاتٍ سرورًا وغبطة

وتحدث من بعد الأمور أمور

وما ذلك على الله بعزيز!

والشيء المهم الأهم في النجاة من الأوضاع الحاضرة: الخروج من صناعة القرارات إلى صناعة الموت.. فالذي يحرص على الموت، توهب له الحياة.. كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

الهوامش:

(١) الطُبْي للحافر والسباع، كالضرع لغيرها.

كناية عن المبالغة في تجاوز حد الشر والأذى.

ويضرب عند بلوغ الشدة منتهاها، لأن الحزام إذا انتهى إلى الطبيين، فقد انتهى إلى أبعد غاياته، فكيف جاوزه

(٢) وهذا يماثل في الأردية المثل المعروف: “‘پانی سر سے اونچا ہوگیا” ۔

(٣) الأعمال الكاملة للكواكبي ص: ٢٨٢، الطبعة الأولى، بيروت ١٩٩٥م.

(الاثنين: ٢٤ من ربيع الثاني ١٤٤٦ھ – ٢٨ من أكتوبر ٢٠٢٤م)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى