محمد نعمان الدين الندوي يكتب: حديث عن التحرير والتحرر…!
أتحدث في هذا المقال عن قضيتين مهمتين.
إحداهما تتعلق بالعقيدة، ولها مس مباشر بالمرتكزات والأسس والثوابت لديننا الحنيف.
أما الأخرى فإنها وإن كانت لا تمس العقيدة مباشرة.. ولكنها – على كل حال – لها آثارها على قناعاتنا وثقافتنا، ولها دورها في طمس هويتنا وشخصيتنا..
أما القضية الأولى.. وهي رأس القضايا.. ومشكلة المشكلات.. وقضية لا يكتمل إيماننا بدون الإيمان بأهميتها وقدسيتها.. لأنها قضية لها علاقة مباشرة بمسرى نبينا ومعراجه عليه الصلاة والسلام..
إنها قضية فلسطين.. قضية القدس.. قضية المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله..
ووالله لو كان في الدنيا حق لما كانت لفلسطين قضية، ولو كان في العالم عدل لما اصطلحت على ظلمها القوى الكبرى..
على كل.. إن فلسطين محتلة بأيدي أبغض خلق الله إلى الله…
وإنها مسؤولية كل مسلم على وجه الأرض أن لا يقر له قرار ولا يهدأ بال ما لم يحرر المسجد الأقصى والأرض الفلسطينية كلها من الاحتلال الغاشم البغيض..
في هذا الشهر بالذات… في شهر رجب الذي كان حدث فيه حادث الإسراء والمعراج.. علينا – نحن المسلمين جميعا – أن نعاهد الله تعالى على أن لا نألو جهدا في تحرير المسجد الأقصى وفلسطين كلها من شذاذ الآفاق المشردين المسوقين من هنا وهناك…
وهنا لا يسعنا إلا أن نحيي بطولة إخواننا الفلسطينيين وكفاحهم الشريف من أجل تحرير المسجد الأقصى وفلسطين، فما قصروا والله ولا تهاونوا، وما ضعفوا ولا استكانوا..
وخاصة منذ أن بدأ طوفان الأقصى من السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م. ضربوا أروع الأمثلة في التضحية والفداء، وقدموا من صور الثبات والصمود والإيمان والعزيمة ما ذكًَروا بذلك إيمان الصحابة وجهادهم..
لا شك أن تضحيات المقاومة الفلسطينية الباسلة لن تذهب سدى، بل ستتمخض عن الفتح القريب إن شاء الله.. عن تحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين وعن جميع المناطق المحتلة المدنسة بأنجاس المغضوب عليهم، وسنصلي في المسجد الأقصى المحرر من اليهود، المعاد إلى المسلمين..
وما ذلك على الله بعزيز…!
* * *
أما القضية الثانية، التي أريد أن أتحدث عنها في هذا المقال، فهي الأخرى – أيضا – تحمل أهمية كبيرة بالنسبة للمسلمين، وصارت – منذ عشرات السنين – الشغل الشاغل للغيارى على الدين، الحريصين على روحه، ونقائه وصفائه، ومميزاته وخصائصه، وهويته وهوايته…
إنها قضية الانبهار بحضارة الغرب والإيمان بثقافته وأيديولوجيته، ونظراته وأفكاره.
يجب أن يكون هناك فرق بين ما أحدثه الغرب من وسائل لإراحة الحياة، وما اخترعه من المرافق وأسباب التيسير والتسهيل لأمور المعاش، وبين ما وضعه من الأفكار والنظريات وأنماط سلوك الحياة.
فلا شك أن الغرب قد فاق الشرق في الاكتشافات الهائلة والمخترعات المحيرة للعقول، ونحن نعترف للغرب بفضله وتميزه وسبقه في هذا المجال، ولا نحظر على الانتفاع بما أحدثه من الآلات وأسباب ترفيه الحياة وإسعادها.
ولكن الذي نحظره.. هو التقليد الأعمى للغرب، فكل ما جاء منه، فكأنه خير محض عند الكثيرين، ولا حاجة فيه لأي روية أو تفكير، أو جدال ومناقشة.. بل يجب أن يرحًب بكل ما هو غربي.. بشقيه المادي والفكري.. ، كما قال من قال:
“… وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم، لنكون لهم أندادا، ولنكون لهم شركاء في الحضارة، خيرها وشرها، حلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب “.
هذه النظرة نظرة مرفوضة تماما.. هذه هي التبعية الفكرية بل بالأصح: العبودية الغربية.. التي يجب أن نتحرر منها كليا..
وهذه الفكرة الانهزامية الاستسلامية هي التي جرّت لنا ما جرت من الويلات والسقطات والهزائم…
فلا خير لنا ولا سعادة إلا بالسير على جادتنا الأصيلة المهتدية بمنابعنا الأصيلة.
وقد صدق من قال: إن رقي المسلمين أن يرجعوا ويرجعوا حتى يلحقوا بركب الرعيل الأول من القرون الأولى، المشهود لها بالخير على لسان النبوة الصادق الأمين.
وكما قال السلف: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
لابد أن يكون عندنا من الجراءة والاقتناع بثوابت ديننا، ما يدفعنا إلى أن نقول للغرب: أخطأت إذا أخطأ…
لا أن نؤيده في خيره وشره، ونبرر باطله، ونقبل كل ما يأتي منه من الأفكار والنظريات كالوحي… بل نحك أفكاره على محك الإسلام، فما وافقه منها، قَبِلْنا، فالحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها فهو أحق بها.
أما ما يعارض من أفكار الغرب إسلامَنا وعقيدتنا، فلا نتردد في رفضه، ولا نخشى في ذلك لومة لائم..
يا أمة محمد! لقد أغنانا الله بالإسلام الكافي الوافي المغني عما سواه… ففيه كل ما فيه سعادتنا وفلاحنا في الدنيا والآخرة..
فعندنا ثوابتنا وأسسنا، وعندنا حضارتنا وتراثنا، وعندنا مميزاتنا وخصائصنا، وهويتنا وشخصيتنا..
فلماذا نرى إلى اليمين واليسار.. والشرق والغرب. ولماذا نمد أيدي السؤال إلى الغير…؟
فنحن أغنياء بما عندنا… والغني لا يجوز له التسول..
علينا أن لا نهتدي إلا بهدي الإسلام، ولا نعتز إلا بسلوك الإسلام وسننه وهديه.
لقد جعلنا الله أصحاب اليد العليا.. اليد المعطية.. لا من ذوي اليد الآخذة السائلة، ووضعنا في المقام المشرِّف الهادي للعالم..
فلنكن حيث وضعنا الله من الشرف والرفعة، ولنظل داعين إلى الخير، ناشرين النور، لا ساقطين على فتات الغير، فتكون حالنا كالأيتام على مأدبة اللئام!
يجب أن نتحرر من العقلية الببغائية، التي لا تحسن إلا التقليد والمحاكاة، ومن النظرة الانهزامية.. نظرة الشعور بمركب النقص.. فهذه النظرة سمة الأمة المفتوحة المغلوبة على أمرها..
ونحن المسلمين أمة الفتوحات والانتصارات والصنائع التي حيرت العالم، وأضاءته بنور الإسلام..
صنائع فاق صانعها ففاقت
وغرس طاب غارسه فطابا
فإذا كنا معتزين.. فلنعتز بإسلامنا، بعقيدتنا، بتراثنا، ولنعض على كل ذلك بالنواجذ.
وأما ما عدا ذلك من أيديولوجيات أو ثقافات أو أفكار ونظريات، فنأخذ منها ما لا يتعارض مع قيمنا وثوابتنا..
أما ما يتعارض مع مبادئنا وهويتنا، فلا.. ولن نقبله أبدا أبدا..
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين }.
(الأحد: ٩ رجب ١٤٤٥ھ – ٢١ يناير ٢٠٢٤م ).