الأحد مايو 19, 2024
مقالات

شخصيات أعجبتني:

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: ساعة مع سفير القرآن في شهر القرآن

إي والله.. ما أحرانا بأن نتحدث في شهر القرآن عن الذي يلقب بـ: «سفير القرآن» أو: «صوت القرآن» أو «صوت مكة»..

عن الرجل الذي تخفق بحبه قلوب ملايين الملايين من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

الرجل الذي اصطلحت الأمة -على بكرة أبيها- على الاعتراف والتقدير للموهبة غير العادية التي حباه الله بها: «موهبة تلاوة القرآن الكريم» تلاوةً تعتبر نسيج وحدها، فتكاد تكون معجزة.. تلاوة تهتز لها القلوب، وتتصدع لها الجبال.. وجذبت الآلاف من عباد الله إلى حظيرة الإسلام.

إنه حبيب الأمة، القارئ (الأسطورة) الشيخ عبد الباسط عبد الصمد (١٣٤٥ – ١٤٠٩ھ = ١٩٢٧ – ١٩٨٨م)، صاحب حنجرة ذهبية فريدة وصوت ملائكي، كما لقبه الكثيرون بـ: «صوت من السماء».. فيما وصفه البعض بـ: «هدية من السماء إلى أهل الأرض»

 ذلك القارئ، الذي حظي من التكريم ومن الشهرة والمنزلة والإعجاب ما لم يحظ بمثله -لحد علمي-  أي قارئ من القراء عبر التاريخ، وتربع  على عرش من الحب والعظمة ما جعل منه أسطورة لن تتأثر على كر الليالي ومضي الأيام، بل كلما مر عليها الزمان زادت قيمتها وارتفع قدرها كالجواهر النفيسة.

الرجل وإن مات قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، ولكنه لا يزال حيا في قلوبنا، وذكره يطبق الآفاق، وتلاوته تشنف الأسماع، وتخطف القلوب، وتعطر المجالس والمحافل، وكلما جاء رمضان تجددت ذكراه بصفة خاصة.. لأنه كان رجل القرآن، فللقرآن وفي القرآن كان يعيش، وبه كان يسحر القلوب، وبه مُنِحَ الحُبَّ القياسي الذي قلما يعطاه أحد …

التلاوة المُجَسِّدة للمعاني:

الحقيقة أنني أجد قلمي الضعيف قاصرا عن وصف تلاوته، وجمال صوته، وتَمَيُّزِ أدائه، وسحر لحنه، ودقة رنته وَصفًا يتلاءم مع قدَر ما يوصف.

الرجل حينما يتلو القرآن الكريم، لا يتلوه متغنيا بألفاظه فقط، بل يتلوه متدبرا في بحر معانيه، متأملا في محيط أسراره، متأثرا بما فيه من الموعظة أو الإنذار، أو القصص والعبر، يتلوه وكأنه يجسد المعنى تجسيدا حيا.. ويصوره تصويرا شاخصا بنبرات صوته، وارتفاعه وانخفاضه، وغلظته ورقته، وتموجات لحنه، ومده وجزره، وإبداعية لهجته وتفننها.

فلدى آيات التبشير -مثلا- تجده وكأنه بلبل يصدح.. أو عندليب يغني.. أو طائر يشدو.. وبالأصح: مَلَكٌ يقرأ..  ويكون -آنذاك- في قمة نشاطه وأوج فنه، وعِزِّ إيمانه ويقينه بوعد الله وبشائره.

أما في آيات الإنذار والتهديد.. فترى في تلاوته الفرق واضحا كل الوضوح.. فصوته يبدو ضعيفا شجيا، ولحنه يصير حزينا.. ونشاطه يبدو فاترا.. وكأنه أخذته الرعدة خوفا ورهبة من الوعيد.

وهناك مواقف وحالات ذكرت في القرآن الكريم، فحينما يتلو صاحبنا مواضعها من القرآن الكريم، يحاول أن يجسد هذه المواقف بجودته الفنية البالغة وأدائه المثالي الرائع.. ولهجته الحلوة الرصينة.

فمثلا.. حينما يتلو قوله تعالى: {وقالت هيت لك}، فكأنه يجسد الموقف الحَرِج المُحرج، الذي تزل فيه -أو تكاد- أقدام الأطهار الأبرار.. الموقف الذي واجه فيه الطهرُ العُهرَ.. حينما جاءت [هي..] بكامل زينتها ومكرها وإغرائها، تتصدى بجمالها وشبابها..  تراود بريئا طاهرا مطهرا، تدعوه إلى ما يتعفف النبلاء -حتى- من مجرد التلفظ به.. فضلا عن التفكير في التلبس به.. والعياذ بالله!

وتأتي دعوة: «المراودة» مفتوحة فاضحة فاتنة عارية عن أي معنى من معاني الحشمة أو الحياء..

وكادت الدعوة الشيطانية أن تنال ميلاً ما إلى الاستجابة لها، فـ: [هو..] -الموجهة إليه الدعوةُ- لم يكن عنده – أيضا- مانع من الاستجابة للدعوة، فعنده الشباب، وعنده الرجولة والصحة والطاقة.. والجو مُواتٍ والفرصة سانحة.. فجميع أسباب الوقوع في الشبكة كانت موفرة ميسرة.. {وراودته التي الأبواب هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب} ولكن [هو] كان من الجانب الخلقي، والطهر الملائكي، والعفاف النبوي، والحياء الإنساني، على أعلى مستوى لم يكن للشيطان عليه من سبيل، فنجا -بتوفيق الله- من الابتلاء، وخرج من: «المِصْيَد» سالما موفور الكرامة، مرفوع الهامة، مصون الحرمة، محفوظا من أية شائبة أو شبهة من السقوط، مما لا يليق بأهل العِفة والشرف.. ولا يتصور ذلك منه.. فهو نبي ابن النبي ابن الأنبياء..

الحاصل.. كادت «المراودة» تنجح.. والرغبة غير الشريفة تتحقق.. والفَعلة تُباشَر.. وقاربت الفتنة حِمَى الخطِّ الممنوع.. ودنت فكانت قاب قوسين أو أدنى.. لو لا أن تداركت: [الموجهة إليه الدعوةُ] رحمةُ الله، فاستعصم.. {ولقد همت به وهم بها} ٢٤ / يوسف. (١)

فجميع ما يحيط بالموقف من الظروف والملابسات، وما يتبعه من الحواشي والهوامش، وما ينم به عن المعاني والمدلولات، قد جسد كل ذلك.. قارؤنا بتلاوته الفذة لقوله تعالى: {هيت لك}، وأبرزه وصوره تصويرا حيا ناطقا، وعبر عنه تعبيرا مشخصا للسامع، صوره بقراءته الموحية، ورنته الدقيقة ولحنه المعبر عن كوامن القصة وخوافيها.

                                * * * * *

القيامة قبل القيامة:

وكذلك اسمعوا تلاوته لقوله تعالى:

{وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت}؟!

كأنه يُجسد مشهدا من مشاهد القيامة، قبل القيامة في أسلوب: [القيامة].. في أسلوب استفهامي غارق في الحزن والأسى، مقرون بلهجة الاستعجاب المؤنِّب والاستنكار القارع لمرتكبي الفَعلة الشنيعة..

ويكرر القارئ (الأسطورة) تلاوة الآية المذكورة، ويعيدها مرة بعد مرة.. وكلما كرر أثَّر وسحر، وأمتع الأسماع، وهز النفوس، في لحن يُلَيِّن أقسى القلوب..

فكأن صاحبنا القارئ لا يمتع السامعين بتلاوته البديعة فقط، بل يحاول أن يفسر -بل يجسد- معناها -أيضا- بأدائه الفذ الطريّ، ولحنه الماتع الوهبيّ، وصوته الجميل الذهبيّ.

أو قل: إنه يجعل السامعين – بتلاوته الساحرة- يهتزون طربا وتأثرا، ويكادون يفقدون سيطرتهم على أنفسهم.

فلتلاوته سحر واضح، وطعم خاص، ونماذج وألوان وأساليب..

وقد مر تنويه بنموذجين منها.

هناك نموذج آخر..، اسمع – مثلا – تلاوته لسورة: «يس».. فلها طعم آخر ليس بأقل أروع مما مضى..

إنها – تلاوة يس الباسطية -تلاوة هادئة تريح القلب، تَشْعُر وأنت تسمعها- كأنك تهب عليك نفحات ناعمة عاطرة من نسيم الصباح الباكر، فتنعشك.. تنعش روحك، وتملؤك إيمانا وسكينة، وتزودك بزاد من الإيمان واليقين.

وكذلك تلاوته لـ«قصار السور» تلاوة، كلما سمعها الإنسان أحب أن يعود إلى سماعها مرات وكرات..

 وإن لإعادته الآيات جمعا وتطبيقا للقراءات المختلفة، متعة أي متعة، وسحرا أي سحر.. (ما أحلى مذاق الشهد وهو مكرر) والقرآن أحلى من كل حلو، وأعلى من كل عالٍ، وأغلى من كل غالٍ.. وجديدٌ لا تبلى جدته، ولا تنقصي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد..

الحقيقة أن السماع إلى الشيخ عبد الباسط يريح القلب، وتدمع له العين، وتسكن الروح وتطمئن..

فتلاوته أروع تلاوة لأجمل صوت..

صوت يسحر القلب والروح..

صوت ملائكيٌ يشرح الصدر، ويصفي المخ، ويوسع البال، ويجلي النفس..

صوت اعتبره البعض: أحسن صوت في تاريخ البشرية..

صوت لا يتكرر مثله، وهو يذكرك بالقرون الأولى، ويذكرك بالآخرة..

كأنه مزمار من مزامير آل داود..

صوت عميق يمثل إرادة الله في الخلق، يأخذك في عمق التفكر في آيات الله العظيمة..

صوت كأنه ليس صوتا من الأرض، بل نزل من السماء..

                                * * * * *

من حسن حظي أنني سمعت الشيخ عبد الباسط مباشرة، وذلك في الاحتفال المئوي للجامعة الإسلامية دار العلوم / ديوبند (١٩٧٩م) الذي كانت افتتحت فعالياته بتلاوته العطرة لسورة التكوير، وبعد مشاركته في الاحتفال كان الشيخ القارئ -رحمه الله- عرّج على لكناؤ، للسلام على سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله، وزيارة ندوة العلماء، فبهذه المناسبة -أيضا- كانت نظمت عدة مجالس قرآنية في  الندوة و في مدينة لكناؤ، تلا فيها الشيخ عبد الباسط  تلاوات رائعة، نالت من الإعجاب والتأثر ما زاد السامعين حبا على حب للقارئ (الأسطورة).

وبعد. لعل قلمي العجمي (النعماني) لم يوفق في إعطاء الموضوع حقه..

فأنى لقلم من أرض الهند أن يصف صوتا من السماء!

ولكن على كل حال.. إنه جهد المقل.. وسطور سطرت أداء للحق، واعترافا بالفضل، وتقديرا للقدر.. ووفاء ببعض الواجب نحو قارئنا العظيم نيابة عن الأمة كلها..

وبالمناسبة.. يطيب لنا أن نحيي قراء مصر الآخرين -أيضا- من أمثال الحصري، والمنشاوي، ورفعت، والطبلاوي، والشحات وغيرهم، فإن هؤلاء هم – في الحقيقة – أهرامات مصر، ونيلها، وعبق تاريخها، هؤلاء من جعلوا الملائكة تحلق في سماء مصر، وكل منهم يصدح بالقرآن على وتر متميز، ولكل منهم فضل وشخصية، ولون ولحن وأداء، يعرف به، ويمتاز عن غيره.

إن هؤلاء -وغيرهم من العباقرة والنوابغ والأئمة في كل علم وفن- هم الذين جعلوا مصر مفخرة العالم الإسلامي.

والحقيقة أن أبناء مصر العظام يستحقون من تحية الأمة وتقديرها ما يكافئ مكانتهم وعظمتهم.

الهوامش:

(١) وهمَّ بها همّ البشر الذي لا براءة له من همه إلا بتوفيق الله، والبرهانُ كان ذلك التوفيق.. والله أكرم من أن يؤاخذ بالهمّ.

(الأحد: ١٧/ من رمضان المبارك ١٤٤٤ھ = ٩ / من نيسان – أبريل – ٢٠٢٣م)

Please follow and like us:
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب