بحوث ودراسات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: ساعة مع لغة القرآن في شهر القرآن

على مائدة العلم والأدب:

[ما أحرانا بأن يكون حديثنا في شهر القرآن عن لغة القرآن..

وهذا ما يدفعني إلى تقديم هذا المقال إلى القراء الكرام، فقد خصصت مقالي هذا بخواطر مبعثرة عن رحلتي الماتعة مع الحبيبة بنت عدنان: لغة القرآن.. لغة الضاد… كيف تسرب حبها إلى قلبي؟ وكيف سنحت لي الفرصة لتعلمها وتعليمها وخدمتها فضلًا من الله ونعمة..

وما أهميتها وفضلها على اللغات الأخرى؟ مشيرًا إلى جهود السلف في خدمة هذه اللغة وحفظها.

كما يحتوي المقال تذكيرًا أخويًّا للعلماء بواجبهم نحو هذه اللغة الجليلة، فالاعتناء بالعربية ليس بأقل أهمية من الاعتناء بالدين نفسه، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تعلموا العربية، فإنها من دينكم»].

 * * *

 العربية لغة مباركة مقدسة، لأن الله تعالى شرفها بخصائص وميزات لم يشرف بها لغةً غيرها، فقد أنزل بها كتابه العظيم: «القرآن الكريم» الذي ختم به الصحف والكتب المنزلة من السماء، كما اختارها -سبحانه-: «اللغةَ الأمَّ» لأشرف رسله، وخاتم أنبيائه، وخيرته من خلقه، وصفوته من بريته، سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي رفع وأجلّ -هو بدوره- شأن العربية، وأعظم قدرها، وأعلى منزلتها، وبين أهميتها بتوجيه صحابته الكرام – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – إلى الاعتناء بها نطقًا وإصلاحًا، وتعلمًا وتعليمًا، وكان هو – نفسه – صلى الله عليه وسلم أفصح وأبلغ من نطق بالضاد، حسبما ورد في الحديث الشريف.

فمن هنا… اختصت العربية بهذا الموقع المتميز الفريد من الأهمية والحرمة والقداسة من بين سائر لغات العالم من بدايته إلى نهايته!

والمسلمون يعتقدون بحق أن اللغة العربية جزء من حقيقة الإسلام، لكونها ترجمانًا لوحي الله ولغة لكتابه، ومعجزة لرسوله، ولسانًا لدعوته. فالقرآن لا يسمى قرآنًا إلا فيها، والصلاة لا تكون صلاة إلا بها.

إذًا.. قضية ” العربية ” قضية الدين، فلها ماله من حماس وحمية واهتمام وعناية، لا يتجرأ على الاستهانة بأهميتها إلا من كان مفَرّطًا أو مقصّرًا فى العقيدة أو الدين نفسه، أو الهوية ذاتها، أو التراث بعينه!

فلما كانت العربية بهذا القدر من جلالة الشأن وعظم الأهمية، والحرمة والقداسة، قيض الله لها – من العصر الأول إلى عصرنا هذا – جهابذة غيارى، ورجالًا أولي العزم – ممن نسميهم علماء اللسانيات أو المتخصصين في اللغة في التعبير الحديث – سخّروا مواهبهم، وجنّدوا طاقاتهم وكفاءاتهم، وأنفقوا أعمارهم، وجاهدوا في سبيل هذه اللغة – حفظًا وتنقيحًا وتأصيلًا وتدوينًا – جهادًا كبيرًا، ما دفعهم إليه إلا الحرص الخالص العظيم في خدمة القرآن الكريم، ومعلوم أن العلوم الإسلامية والعربية نشأت في الغالب لأجل القرآن، ولخدمة القرآن، ومن القرآن، فعلوم اللغة – مثلًا – ما وضعها المسلمون وما عانوا في سبيلها ما عانوا، إلا ليفهموا عن طريقها معاني القرآن الكريم، والنحو – كذلك – ما وضعوه إلا ليتجنبوا بالتزام قواعده اللحنَ في القرآن الكريم، وقس على ذلك العلوم الإسلامية الأخرى!

فالاهتمام بالعربية وعلومها، كان مقصدُه الأساسي -ولا يزال ولن يزال- فهمَ الكتاب والسنة، ومن أجل ذلك.. نرى من السلف من أوجب تعلم اللغة العربية مثل تعلم الدين والسنن والفرائض سواء بسواء كعمر بن الخطاب رضي الله عنه والشافعي وابن تيمية رحمهما الله، وكذلك منهم من اعتبر حب العربية من حب الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- والإقبال على تفهمها من الدين وسبب الفلاح في الدين والآخرة كالثعالبي، ومنهم من بلغ من الحساسية المرهفة والإدراك البالغ لحقيقة أهمية العربية وخطورتها ما جعله يقول بأن اللحن في العربية كالخطأ أو الخلل في العقيدة، أو الخطأ في الصلاة.. استنباطا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم لمن لحن في كلامه بحضرته: «أرشدوا اخاكم فقد ضل»، حيث استفظع -صلى الله عليه وسلم- اللحن في العربية وشنّعه، فعده ضلالًا، وأكد على إصلاحه وتصحيحه تأكيدًا حاسمًا جازمًا بكلمة: «أرشدوا».

وإن الجهود المبذولة في الحفاظ على العربية والاعتناء بها من جميع النواحي لم تنقطع سلسلتها في أي فترة من فترات التاريخ الإسلامي، والمكتبة الإسلامية تحوي أسفارًا كبارًا -في صورة المعجمات والقواميس وكتب علوم اللغة- تدل على ضخامة وشمول المجهودات التي بذلها السابقون -خصوصًا، واللاحقون عمومًا- في سبيل لغتهم القرآنية..

وأراد الله تعالى لعبده الضعيف هذا، القليل البضاعة، الضئيل الحظ في العلم، أن ينشأ على حب «العربية» حبًّا ليس بأقل من حب من ولد في ربوعها، ورضع بلبانها، وفتح عينيه على أرضها، ونشأ بين أبنائها العرب العرباء، يقول ذلك تحديثًا بالنعمة {وأما بنعمة ربك فحدث}. والفضل في ذلك يرجع – بعد الله – إلى ندوة العلماء، بالهند، التي درس فيها الكاتب من الثانوية إلى الدراسات العليا، والتي لا يمكن أن يدرس فيها أحد، ولا ينشأ في قلبه حب العربية بل وعشقها، والرغبة الجادة في دراستها بل والتطلع إلى النبوغ فيها، والحنين بل والتنافس إلى خدمتها (بمختلف صورها وأشكالها)، وإلى المجالس المباركة لسماحة شيخنا ومربينا الجليل الإمام العلامة أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله (أحد جهابذة العلماء، ومشاهير كتاب العربية، ومن أبرز المؤلفين في العلوم والموضوعات الإسلامية في تاريخ الإسلام العلمي العام) التي كان كاتب هذه السطور حريصًا على حضورها خلال دراسته بالندوة، ففي رحاب هذه الندوة الحبيبة إلينا العزيزة علينا، وبفضل هذه المجالس العلوية الحسنية المباركة، وبفضل قراءة كتب شيخها الجليل.. تعلمنا حب العربية، وأدركنا أهميتها، وعرفنا ضرورة إتقانها، والغوص في أعماقها، ومحاولة التقاط بعض الدرر واللآلئ الثمينة من بحرها، كما تعلمنا – في ندوتنا هذه، وفي مجالس شيخنا الندوي – حب العرب، فعن طريق آبائهم وأجدادهم الكرام تشرفنا بهذا الدين الحنيف، الذين اختارهم الله تعالى للاضطلاع بعبء أمانة الدعوة في أول أمرها وفجر حياتها، {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فجعلهم الطلائع الأولى والسابقين الأولين إلى هذا الدين، الذين بلغوه إلى أقصى أنحاء المعمورة.

فأثمرت الدراسة في ندوة العلماء، وحضور مجالس شيخها الإمام الندوي رحمه الله، ومطالعة مؤلفاته -فيما أثمرت- الاعتزازَ بالدين، وعاطفة الدعوة إليه، والتمكن من علومه والحفاظ عليها بقدر الإمكان، والتشبع بحب قائدنا ونبينا محمد النبي العربي الكريم -صلى الله عليه وسلم- حبًّا يفوق حب الأهل والولد والناس أجمعين، كما أثمرت -بصفة خاصة- حب العربية، والشغف الزائد بدراستها، بصفتها لغة القرآن، ولسان الإسلام، وعنوان الهوية الإسلامية، الشغف الذي ما زادته الأيام إلا شدة ومتانة ورسوخًا في القلب:

 أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

 فصادف قلبًا فارغًا فتمكنّا

وهذا الشغف بالعربية والرغبة في خدمتها هي التي حركت قلم الكاتب -وهو لم يتجاوز العقد الثاني من عمره- فصدر منه -١٩٧٩م- أولُ مقال له، نُشر في جريدة «الرائد» التي تصدر عن ندوة العلماء، فمن أواخر العقد الثاني من عمره، إلى الآن.. ما فتئ صاحب هذا القلم مرتبطًا بالعربية. وبها معتزًا، وفي سبيلها مجتهدًا -دراسة وتدريسًا، وكتابة وتأليفًا، ونشرًا ودعوة- وإليها داعيًا، وإياها جاعلًا نصب عينيه، ومحور نشاطاته ومقصد حياته.

هذا. وكان من فضل الله سبحانه على الفقير إليه تعالى، أنه سافر في بعثة تعليمية من ندوة العلماء إلى الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في أوائل الثمانينيات، فهذه الفرصة السانحة للدراسة في الجامعة المدنية المباركة، والاغتراف من مناهل العلم والعرفان الأصلية الأولية العريقة، والإقامة الطويلة -نحو أربع سنوات- في مهبط الوحي والقرآن، وعاصمة الإسلام، وحاضرة العروبة والتتلمذ على الأساتذة والعلماء العرب البارزين، والاحتكاك بالطلاب والشباب العرب ومعاشرتهم، كل ذلك -أيضًا- أدى دوره -بطبيعة الحال- في تقوية صلته بالعربية وحبها، وترسيخه في القلب و جَعْلِه جزءا لا يتجزأ من كيان صاحبه، لا يعيش إلا به وله وفيه.

فما رجع الكاتب من المدينة المنورة (سنة ١٤٠٥ھ = 1985م) – بعد أن أخذ إجازة «الليسانس» من كلية القرآن الكريم والدراسات الإسلامية، إلا وهو أكثر حبًّا، وأعظم تحمسًا، وأشد رغبة وحرصًا على خدمة العربية (التي تمثل كعبة آماله وأحلامه ومركز أشواقه وطموحاته، ومصدر عزه وشرفه) ومتمنيًا وداعيًا الله سبحانه أن يتيح له الفرصة ليكون جنديًّا صغيرًا من جنود العربية، ويوفقه لبذل ما يحمل -بفضل منه جل وعلا- من صلاحية وحرص ورغبة في سبيلها.

وقد استجاب الرب الكريم لدعاء عبده الضعيف هذا، وحقق رجاءه، فأتاح له فرصة العمل (في الجامعة الإسلامية دارالعلوم/ حيدرآباد، الهند) في منبر إعلامي عربي في صورة مجلة «الصحوة الإسلامية» التي قام برئاسة تحريرها منذ صدورها سنة (١٤٠٩هـ)، إلى ١٤٣٥ھ، كما عهد إليه بتدريس مواد الأدب العربي واللغة والإنشاء منذ أن تولى التدريس عام ١٤٠٦هـ بالجامعة المذكورة، وإلى نهاية عمله بها ١٤٣٥ھ، وهكذا سهل الله تعالى – بفضله وكرمه ومنه – للكاتب أمر تحقيق أمنيته العزيزة المتمثلة في خدمة لغة الكتاب والسنة والتراث.

وأخيرًا.. لي كلمة أخوية صريحة مع مدرسي اللغة العربية، وهي: أن لا يألو جهدًا في إقناع طلاب العربية بأهمية هذه اللغة القرآنية الجليلة، وضرورة دراستها دراسة خاصة عميقة، فلا يتعلمونها على كره، أو على مضض، أو مصابين بمركب النقص والانهزام النفسي، أو كمادة إضافية، بل يقبلون عليها منشرحة صدورهم، متفتحة لها قلوبهم عن بصيرة ووعي، ويدرسونها في ثقة واعتزاز، صادرين عن اعتقاد واقتناع، وعلى أساس من العاطفة الدينية المحضة، وكلغة حية خالدة تساير ركب الزمان، وتقدر على المواكبة مع مستجدات العصر.

وسعت كتاب الله لفظًا وغاية

وما ضقت عن آي به وعظات

فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة

 وتنسيق أسماء لمخترعات

أنا البحر في أحشائه الدر كامن

فهل سألوا الغواص عن صدفاتي

والحقيقة أن المصاب بالعمش في البصر والبصيرة، أو ذا الرؤية المتعصبة الحاقدة، أو الحاسدة، أو النظرة المعادية أو المعاندة، هو الذي يتحامل على لغة كالعربية، أو يتهمها باتهامات هي منها براء كبراءة الذنب من دم ابن يعقوب، فاللغة التي احتوت الدستور الإلهي نصًّا وروحًا وغاية، كيف لا تكون قادرة على التكيف والتطور والاستيعاب لمستجدات الزمان، بل هي قادرة على ذلك قدرة ذاتية أثبتتها في الماضي والحاضر، وستظل تثبتها في المستقبل أيضا.

إن قضية «العربية» قضية العقيدة والهوية والمصير، قضية الارتباط بالدين، فعليها -العربية- يتوقف ارتباط المسلمين بالدين ووحدتهم، فالمسلمون بصفة عامة، والعلماء بصفة خاصة، والمشتغلون بالعربية بصفة أخص مدعوون -دائمًا- إلى الاعتناء بهذه الناحية المهمة المتصلة بالدين والعقيدة مباشرة ورأسًا وأصلًا، لا واسطة أو جزءا أو هامشيًّا.

 ومن هنا.. لا تقبل قضية العربية أي قصور أو تقصير، أو مداهنة أو نفاق، أو أي تأخير أو تسويف أو تأجيل، أو أي تهاون أو استهانة أو استخفاف بقيمتها.

إن قضية «العربية» يجب أن تكون على رأس أمورنا ومن أولوياتنا وأرجحياتنا، فالتقصير فيها يعني التقصير في الدين، ولا يتصور ذلك من أي مسلم مخلص!

(الأربعاء: ١١ من رمضان المبارك ١٤٤٦ھ = ١٢ من مارس – آذار – ٢٠٢٥م).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights