محمد نعمان الدين الندوي يكتب: سهام الأسحار
تروي كتب التاريخ أن الخليفة العباسي «المعتصم» أحدث سنة سيئة، وهي أنه ملأ قواته المسلحة -حسب التعبير الحديث- «بجنود الترك» الذين لا خلاق لهم ولا ذمة، والذين كانوا أبعد الناس من مقتضيات المدنية والثقافة والآداب العامة، و-بالتالي- كانوا أقرب الناس إلى أخلاق البدويين الأجلاف الجهال غير المتحضرين، فأتوا بحركات وأعمال أنكرها الناس، وأزعجتهم، وضيقت عليهم الخناق، وعاثوا في الأرض فساداً، فشكاهم المواطنون إلى المعتصم، فما أشكاهم (أي لم يحفل بشكواهم ولم ينصفهم)، فهددوه بالحرب، فعجب المعتصم، لأنه الحاكم الآمر الناهي، والحكومة حكومته، والجنود تحت تصرفه، وهو الذي بيده مفاتيح خزانة الدولة، وهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في الإمبراطورية الإسلامية جمعاء، فكيف يهدده هؤلاء الذين هم رعيته، فسألهم -متعجبا- عن معنى تهديدهم هذا، فقالوا : «نحاربك بسهام الأسحار..!» قال: وما سهام الأسحار؟ قالوا نتضرع إلى الله الواحد القهار الديان، وندعو عليك في الأوقات التي لا يرد فيها الدعاء، ومنها (ساعات الأسحار) التي يحث فيها الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين على مد يد السؤال، والتوبة إليه واستغفاره، فيقول: ألا هل من مستغفر فأغفر له، ألا هل من سائل فأعطيه، فنمد أيدينا إلى الله ونقول: يا رب عليك بعبدك المعتصم!
فلما سمع المعتصم مقالتهم فزع وجزع… واعترف بأن «سهام الأسحار» -فعلا- سلاح لا قبل له بذلك، وهو -المعتصم- غير قادر على مواجهة هذا السلاح، ثم أمر ببناء مدينة سر من رأى (سامراء) ونقل جنود الترك وحاشيته إليها.
سهام الأسحار
إن «سهام الأسحار» سلاح لا يزال قابلا للاستعمال، وهو بمتناول يد كل مسلم، ولا تستطيع أي قوة ـ حتى وإن كانت تلك القوة: أمريكا ـأن تحظر على استعماله، وهو سلاح قديم جديد مضمون إصابة الهدف، سلاح لم يصدأ..، ولم ولن -يتعطل تأثيره، ولم تضعف أهميته رغم تقدم التكنولوجيا العسكرية المذهل، واختراع الأسلحة الفتاكة، بل إن «سهام الأسحار» هذه.. هي السلاح الحقيقي للمظلومين العزل- بدون أي تقليل أو إضعاف من أهمية السلاح المادي المأمور بعنايته وإعداده في القرآن الكريم نفسه-، يبدو أن المضطهدين المعذبين من أبناء الإسلام عادوا لا يعيرون هذا السلاح السحري السماوي عناية وانتباها، ولا يلتفتون إليه التفاتا، فليجربوا هذا «السلاح» المشهود بفاعليته ونجاحه الأكيد منذ أن عرف الإنسان السلاح، فليستغروا الله تعالى في أوقات الأسحار، ويفيضوا عبرات الاستغفار والندم، ويسألوه تعالى النصر والغلبة على الأعداء الظلمة.
الانتصارات والفتوحات الإسلامية
والحقيقة أن المسلمين ما حققوا الانتصارات الباهرة والفتوح العظيمة في الماضي من أجل السلاح المادي، وإنما أحرزوها -قبل كل شيء- بفضل إيمانهم العجيب بوعد الله ونصره، وورعهم وتقواهم، وبعدهم عن المعاصي كل البعد، فهذا عمر بن الخطاب بعث إلى قائد جنود المسلمين سعد بن أبي وقاص وهو يواجه کسری بقوله:
«يا سعد! أوصيك ومن معك بتقوى الله عزوجل، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، واعلم أن ذنونب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وأنّا لا ننتصر على عدونا بعدد ولا عدة، فعددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليس كعدتهم، وإنما ننتصر بمعصية عدونا لله وطاعتنا له، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإن لم نغلبهم بطاعتنا لم تغلبهم بقوتنا».
وروى ابن كثير في تاريخه «البداية والنهاية» أن هرقل إمبراطور الدولة البيزنطية حين قدمت عليه منهزمة الروم، وهو في أنطاكية، قال: ويلكم أخبروني عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟ قالوا بلى! قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر أضعافاً في كل موطن، قال: فما بالكم تنهزمون؟ فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون الليل ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنّا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام، وننقض العهد ونغصب ونظلم ونأمر بالسخط، وننهى عما يرضى الله ونفسد في الأرض، فقال أنت صدقتني!
وسأل هرقل رجلا كان أسره المسلمون، فقال: أخبرني عن هؤلاء القوم، فقال: أخبرك كأنك تنظر إليهم هم فرسان بالنهار رهبان بالليل، ولا يأكلون في ذمتهم إلا بثمن، ولا يدخلون إلا بسلام، ويقفون على ما حاربوا حتى يأتوا عليه، فقال: «لئن كنت صدقتني ليملكن موضع قدمي هاتين».
ووصف رجل من الروم المسلمين لرجل من أمراء الروم، فقال جئتك من عند رجال دقائق يركبون خيلا عتاقا، أما الليل فرهبان، وأما النهار ففرسان، يريشون النبل ويبرونها ويثقفون القنا، لو حدثت حديثك أحدا، ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر، قال: فالتفت إلى أصحابه، وقال: «أتاكم من لا قبل لكم به».
فهذا هو سر غلبة المسلمين على أعدائهم، فما انتصروا إلا بأخلاقهم الزكية العالية وطاعتهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
سهام الأسحار
والحقيقة أن «سهام الأسحار» هذه.. أو «أنات ساعات الأسحار وابتهالاتها وتضرعاتها» هي سلاح المؤمن ليس ضد عدوه فحسب، بل هي رأس مال العلماء والحكماء، ووراء تفجر قريحة الأدباء والشعراء، فإن وقت «السحر» اللطيف المبارك ينعش الروح ويفتح الذهن ويفجر القريحة ويشعل الموهبة، في هذا الوقت الروحاني -الذي تقبل فيه عناية الله على عباده، وتطل عليهم رحمته- ويتزود فيه العالمون العاملون بنشاط جديد وروح جديدة للعمل، الوقت الذي لم -ولن- يستغني عنه أكبر عالم وأعظم مرب وأجل مصلح، إن هذا الوقت -وقت السحر- يمكن أن نسميه بـ: «مصنع الرجال والعظماء»، و«معمل النوابغ والعباقرة» الذين يملؤون فيه بطاريتهم، ويقبلون على ربهم بعباداتهم ودعواتهم وابتهالاتهم، فيعطيهم ما يسألونه ويُجرى على ألسنتهم العلم والحكمة، ويفتح لهم خزائن رحمته، ويكرمهم بفضل من عنده، ويمنحهم القدرة على العمل والإبداع .
من هنا.. فقد كان السلف -رحمهم الله- حريصين -أشد ما يكون الحرص- على اغتنام أوقات «الأسحار» الصانعة المربية الملهمة الموحية واستثمارها، فقد كان لأناتهم السحرية وابتهالاتهم الصباحية الباكرة دور أساسي في تفوقهم وإبداعهم وتميزهم بل تفردهم وخلود آثارهم، وارتفاعهم إلى الصدارة والزعامة والإمامة في مجالات تخصصاتهم.
تحدث الشيخ أبو الحسن الندوي -رحمه الله- عن العوامل التي كونت شخصية شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال -رحمه الله- فذكر -بصفة خاصة- دور الأنات السحرية في تكوين شخصيته، يقول:
«والمربي الرابع الذي يرجع إليه الفضل في تكوين سيرته -إقبال- وشخصيته، وفي قوة شعره وتأثيره، وجدة المعاني وتدفق الأفكار، هو أنه لم يكن يقتصر على دراسة الكتب والاشتغال بالمطالعة، بل كان يتصل بالطبيعة من غير حجاب، ويتعرض للنفحات السحرية، ويقوم في آخر الليل، فيناجي ربه، ويشكو بثه وحزنه إليه، ويتزود بنشاط روحي جديد، وإشراق قلبي جديد، وغذاء فكري جديد، فيطلع على أصدقائه وقرائه بشعر جديد، يلمس الإنسان فيه قوة جديدة وحياة جديدة، ونورا جديدا، لأنه يتجدد كل يوم، فيتجدد شعره، وتجدد معانيه».
وكان عظيم التقدير لهذه الساعات اللطيفة التي يقضيها في السحر، ويعتقد أنها رأس ماله ورأس مال كل عالم ومفكر لا يستغني عنها أكبر عالم أو زاهد، يقول في بيت:
«كن مثل الشيخ فريد الدين العطار في معرفته، وجلال الدين الرومي في حكمته، أو أبي حامد الغزالي في علمه وذكائه وكن من شئت في العلم والحكمة ولكنك لا ترجع بطائل، حتى تكون لك أنة في السحر»،
وكان شديد المحافظة على ذلك كثير الاهتمام به، يقول في مطلع قصيدته:
«رغم أن شتاء انجلترا كان قارسا جدا، وكان الهواء البارد يعمل في الجسم عمل السيف، ولكني لم أترك في لندن التبكير في القيام»،
وكان لا يبغي به بدلا، ولا يعدل به شيئا، يقول في بيت:
«خذ مني ما شئت يا رب! ولكني لا تسلبني اللذة بأنة السحر، ولا تحرمني نعيمها»
بل كان يتمنى على الله أن تتعدى هذه الأنة السحرية، والحرقة القلبية إلى شباب الأمة المتنعمين، فتحرك سواكن قلوبهم، وتنفخ الحياة في هياكلهم،
يقول في قصيدة:
«اللهم ارزق الشباب أنتي في السحر واجرح أكباد الشباب بسهام الآلام الدينية، وأيقظ الأمال والأماني النائمة في صدورهم بنجوم سماواتك التي لا تزال ساهرة، وبعبادك الذين يبيتون الليل سجدا وقياما، ولا يكتحلون بنوم، ارزق الشباب الإسلامي لوعة القلب وارزقهم حبي وفراستي».
ويقول في قصيدة:
«اللهم ارزق الشباب أنتي في السحر، وأنبت لصقور الإسلام القوادم والخوافي، التي تطير بها وتصطاد، وليست لي أمنية يا رب إلا أن تنتشر فراستي، ويعم نور بصيرتي في المسلمين» (روائع إقبال ٥٤-٥٦).
وأخيرا … لا يسعنا إلا أن ندعو الله سبحانه أن يرزقنا الأنات والتضرعات والدعوات السحرية التي تشكل سهاماً وسلاحا ضد عدونا في جانب، ومصدر قوة ومنبع حكمة ومبعث حياة ونشاط لنا في جانب آخر! إنه سميع الدعاء!
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند
(الأحد: ٧ شعبان ١٤٤٥ ھ – ١٨ فبراير ٢٠٢٤م)