الأثنين مايو 13, 2024
مقالات

محمد نعمان الدين الندوي يكتب: على مائدة العلم والأدب.. «القلم»

ما أرفَع قدرَه وأعظمَ شأنَه …

فقد كفاه رفعةَ شأنٍ وجلالةَ قدرٍ أن الله تعالى أقسم به في قرآنه.. {ن والقلم وما يسطرون}.

واللهُ إذا أقسم بشيء.. فيعني أنه ذو شرف عظيم وشأن خطير..

وفي الخبر عن ابن عباس (١) أنه قال: أول ما خلق الله القلم، قال له اكتب: قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة

فبـ: «القلم» خُطّ الوحي في السماء، وكُتب المصحف في الأرض، وخاطب الرسولُ الملوكَ والأمراء والعظماء.

وبه علّم الربُ الإنسانَ ما لم يعلم..

نعم. بـ: «القلم» يخرج الإنسان من ظلام الجهل إلى نور العلم..

وبه يعبر الإنسان عن بنات فكره وخلجات نفسه وما يُلهَم من المعاني والخواطر والأفكار..

وبه ألف المؤلفون كتبهم، وسجل الشعراء إبداعاتهم، وخلد العباقرة نماذج عبقريتهم ونبوغهم.

فلو لا القلم لما كان للحرف عين ولا أثر، ولما كان لسوق العلم نَفاق ولا ازدهار..

وإذا كان القلم بيد مؤهل مخصب الفكر عبقري الذهن.. فلا تسأل عن جوَلانه وفيضانه.. ونشاطه وعطائه.. إذن يملأ القرطاس دررا ولآلئ من الحكم والمعاني كأبكار الغواني في دقائق وثواني..

 خادم مطيع أليف، ممتع مؤنس، مقلد متبع.. طوع أمرك ورهن إشارتك، لا يعصي لك أمرا.. ولا يولي لك ظهرا.. لا تجد مثله مطيعا.. يسهر معك، لا يضجر ولا يتعب حتى ولو تتعب أنت..  لا يمل استزادة.. ولا يكره استطالة..

وفيّ أمين لا يخذل ولا يخون..  فلا يبوح إلا بما تريد وحينما تريد.. لا ينقص ولا يغش ولا يزيد..

به تستطيع أن تعبر عن عواطف حبك وأشواقك لمن تحب..

 وبه تستطيع أن تنفس عما في صدرك من غضب أو استنكار أو سخط تجاه من تشاء ممن تكرههم من الثقلاء أو المؤذين لنفسك أو الجارحين لمشاعرك أو المتحدين لغيرتك …

وبه تستطيع أن ترد عل المسيئين للإسلام، النائلين من ثوابته، والمتطاولين على مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم.

فهو برد وسلام في جانب.. وحرب ونار في جانب آخر..

وبه تستطيع أن تكشف للناس ما أودعك الله من المواهب والكفاءات، وما ميزك به من القدرات والصلاحيات..

وبه تستطيع أن تجعل الآلاف من الناس يحبونك ويتأثرون بك ويمشون خلفك.. فكم من ثورات وانقلابات وتحولات وإصلاحات مدينةٌ للقلم.. ناتجة عن جولاته وصولاته، وإعجازه وإبداعه، وسحره وتأثيره..

وبه تستطيع أن تصعد إلى أسمى منازل الشهرة والمجد والعظمة..

فبالقلم يجلس الصعلوك على كراسي الملوك.. ويُحيّا بأحسن التحيات اعترافا بقيمة القلم الذي يمتلكه..

كما قد يسقط صاحب القلمُ من أعين الناس، إذا لم يراع حرمته ولم يوفق في استعماله..

وبه قد يصير صاحبه ذا ثراء وسعة في الرزق.. كما قال بعضهم: «إن لي قلما أملؤه حبرا، فيملأ جيبي تبرا» ..

هذه القاعدة ليست مطردة.. بل تكاد تكون شاذة.. فكم رأينا من حملة الأقلام العبقرية من ذوي المسغبة.. يشكون من ضيق ذات اليد..

ساكت لا ينبس ببنت شفة..  ولكن ما أبلغه إذا تكلم، صامت ولكن ما أفصحه إذا استُنطِق.. فإذا نطق نثر الدرر واللآلي، وجاد بالمعارف والحكم..

به يؤمر ويُنهى..  وتُقضى الأقضية.. ويُنصب ويُعزل.. وتُسيّر الجيوش.. وتُجهز الجنود.. وتُنفذ الأحكام.. وتُرفع الأعلام أو تُنكس.. وتحقن الدماء أو تسفك..

إنه يُفرح ويحزن.. يسر ويؤلم.. يبشر وينذر..  يُبكي القلوب كما يثلج الصدور.. يبني ويعمر كما يُخَرّب ويدمر..

ما رأى الناس مثله جامعا بين صفات متضادة.. فهو قادر على العطاء قدرته على المنع..  قادر على الإفراح قدرته على الإبكاء.. وهكذا دواليك..

وهو الذي يحدثنا عن الماضي وأخباره، ورجاله وأبطاله، وصالحيه وطالحيه، وعجائبه وغرائبه،

وبه نعلم عن خطط المستقبل ومشاريعه..

من عيوبه أنه لا يخفي الأسرار.. بل يفضح الأسرار..  ويهتك الأستار.. ويعلن الأخبار..

مفاضلة بين السيف والقلم

لقد أبدع الشعراء في صفة الأقلام، وفضلوها على السيوف، كما فضلها بعضهم على الأقلام، ولكل منهم ما يعضد به رأيه، ويُحكم قوله.. فيقول أبو تمام في تفضيل السيف على القلم:

السيف أصدق أَنباء   من     الكتب

في   حدّه الحدّ بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سُود الصحائف في

متونهن   جلاءُ   الشك     والرّيب

والعلم   في شهب   الأرماح لامعةً

بين الخَميسِيْن لا في السبعة الشُهُب

ولكن معظم الشعراء فضلوا القلم على السيف، كما قال علي بن العباس التنوخي:

إن يخدم القلمَ السيفُ الذي خضعت

له الرقاب   ودانت    خوفَه    الأمم

فالموت   والموت   لا   شيء يغالبه

ما   زال    يتْبع   ما   يجري به القلم

بذا    قضى     الله للأقلام قد بُريت

إن      السيوف    لها مذ أُرهفت خدم

وقال شاعر آخر في تفضيل القلم على السيف:

إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم

وعدوه مما يُكسب المجد والكرمْ

كفى   قلم الكٍتاب   عزا ورفعة

مدى الدهر أن الله   أقسم بالقلمْ

فكونوا يا أهل العلم من أصحاب القلم.. تكونوا أنفع للأمة، وأكثر عطاء للإنسانية، وأنبه ذكرا في التاريخ.

الهوامش:

(١) انظر تخريج الخبر في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: ٢/ ٧١.

(الأحد: ١٨ من شوال ١٤٤٥ھ – ٢٨ من أبريل ٢٠٢٤م)

Please follow and like us:
محمد نعمان الدين الندوي
لكناؤ، الهند

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب