لعل البعض -من القراء- يستغرب كلمة: [انتصرت] من العنوانَ، ويتساءل مستوضحًا: كيف انتصرت غزة؟ وقد تحولت أطلالًا وأنقاضًا.. واستُشهِد من خيرة أبنائها أكثر من خمسين ألف من رموزها وقادتها، وأطفالها ونسائها، وشيوخها وشبابها..
والجواب: نعم. لقد انتصرت غزة رغم أنوفهم!
انتصرت حيث مرغت أنف العدو في التراب، وفضحت هشاشة جيشه -الذي كان يقال إنه- لا يُقهر..
إنها انتصرت بالمنطق الإيماني والأخروي..
انتصرت بصمودها وثباتها..
انتصرت بقادتها ورموزها، التي ضحّت بهم دفاعًا عن: [القضية الأم].. قضية فلسطين.. وعن حرمة المسجد الأقصى!
انتصرت بإفشالها صفقة القرن.
نعم. لقد انتصرت غزة بكل ما للكلمة من معنى.. وأصبحت رمز الصمود والشجاعة، والتضحية والفداء.
ورمز العزة والمجد والكرامة والإباء.
الحقيقة أن غزة جددت ذكريات جيل الصحابة الأغر..
فكأنه – جيل الصحابة – يعيش في غزة من جديد.
هذا. وبينما انتصرت غزة في جانب.
فضحت وعرّت الكثيرين – منا – في جانب آخر!
عرّت أولئك الذين كانوا يُعدَّون مخلصين للقضية الفلسطينية، وكانوا يُعتَبَرون أعزة محترمين في عيون أبناء الأمة…
إنها -غزة- عرّت رجالَ النفاق والجبن الذين خذلوا غزة -في وقت كانت فيه في أشد حاجة إلى نصرتهم وتضامنهم- متفرجين على أهلها الذين تُصب عليهم قذائف حاصدة وحمم ملتهبة صباح مساء.. -منذ ما يقارب سنتين متواليتين-، وتطير أجسادهم أشلاء متناثرة في الفضاء.. يتلبطون بالدماء.. يتضورون جوعًا.. يحنّون إلى قطرة من الماء..
وقديمًا قالوا:
في الأزمات تظهر معادن الرجال
نعم. في وقت الشدائد والمحن الصعبة تظهر معادن الناس، وتظهر الناسُ على أصلها وحقيقتها..
في وقت الشدة يظهر الأصل الطيب من الأصل الخبيث..
في وقت الشدة يظهر أصحاب المصالح من الأصحاب الحقيقيين..
لقد أظهرت أزمةُ غزة معادنَ الرجال وكشفت قبح باطنهم المغلف بالظاهر اللامع الخداع..
إنها أثبتت أنهم لم يكونوا أنصاف رجال ولا أشباه رجال.. فضلًا عن أن يكونوا رجالًا..
إنها كشفت القناع عن حقيقة المدعين القوالين، والمكافحين المزعومين الكذابين، الذين لم تكن تكل ألسنتهم عن دعاوي النصرة للقضية الفلسطينية.. ولكنهم افتضحت حقيقتهم عندما جاءت ساعة الامتحان.. ساعة تصديق الأقوال بالأعمال..
إنها -أزمة غزة- كشفت حقيقة الأقرباء والأشقاء والجيران.. فلم يراعوا حقوق القرابة ولا الجوار ولا الأخوة ولا الدم ولا الإنسانية… كلهم تخاذلوا.. ومن ثَمّ سقطوا عن أعين أبناء الأمة.
الحقيقة أن ضمير العالم الإسلامي في غيبوبة كاملة.. لا يشعر ولا يحس بما يحدث في غزة من الفظاعات التي لم يسمع العالم بمثلها قط..
والإنسانية تُحتضر.. بل لعلها لفظت نفَسها الأخير، وحُفظت في متحف التاريخ، وصارت قصة ماضية تروى، وتُذكر فضائلها، ولم تعد حقيقة حية تعيش في دنيا اليوم..
يا أهل غزة! يا إخواننا وأخواتنا، وأبناءنا وبناتنا في غزة! سامحونا.. لله سامحونا.. نرجوكم أن تسامحونا.. فتقصيرنا – شعوبًا ودولًا وحكوماتٍ – في حقكم عظيم…
والله عار علينا أن نجلس في بيوتنا آمنين مطمئنين متمتعين بكل النعم والملذات.. وأنتم تعيشون – كل وقت – في ظلال الخوف من الموت بل في انتظار الموت.. وفي حرمان من كسرة خبز وشربة ماء..
لن يغفر لنا التاريخُ ذنبنَا هذا.
ولا ندري كيف نجيب الله تعالى إذا سألَنا يوم القيامة عن ذلك..
والحقيقة نحن – المسلمين خاصة، والأسرة الدولية عامة – مجرمون أمام الله وأمام التاريخ وأمام الإنسانية!
سامحونا يا أهل غزة! نحن الشعوب العربية والإسلامية جد خجلين نادمين سادمين…
لا نستطيع تجاهكم إلا الدعاء والدعاء فقط..
عجل الله فرجكم، وكشف الغمة عنكم، وأراكم وأرانا في العدو عجائب قدرته.
اللهم آمين يا رب العالمين!
(السبت: ٣٠ من محرم ١٤٤٧ھ = ٢٦ من يوليو – تموز – ٢٠٢٥م).