محمد نعمان الدين الندوي يكتب: في ظلال فكر إقبال.. الشاعر الأسطورة
[تهدف هذه السلسة الجديدة: «في ظلال فكر إقبال» إلى تقديم نماذج منتقاة من شعر إقبال إلى قراء العربية، وهذه الحلقة الأولى تتحدث عن قصة كاتب المقال مع الشعر، مشيرة إلى بعض خصائص شعر إقبال، وسنبدأ شرح قصائد وأبيات مختارة من شعر إقبال، اعتبارًا من الحلقة القادمة بإذن الله تعالى].
لا أدري هل من سوء حظي أو من حسن حظي أنني لم أك قط من المولعين بالشعر، المفتونين به، فكنت قليلًا ما أستعمله في أحاديثي أو كتاباتي، بل في بعض الأحيان كنت أتجاوز بيتًا -عربيًّا- كان يمر بي خلال مطالعتي لكتاب أو مجلة، حينما كنت أجد صعوبة في فهمه، فما كنت أكلف نفسي عناء فهم ألفاظه أو إدراك معانيه.. مع العلم أنني من مطلع العقد الثاني من عمري وأنا أُبْدِئُ وأعيد في كتب الأدب العربي، حتى صرت بمعالمها أهدى من سرب القطا إلى عشه.
و-طبعًا- كان ذلك في بداية عهدي بالقراءة والمطالعة.. فمع مرور الأيام، ونضج الشعور أو الحاسة الأدبية شيئًا فشيئًا ازددتُ معرفة بأهمية الشعر، ومِن ثَمّ إقبالًا عليه، وتذوقًا لرائعة، وتفهمًا لدقيقه، مهما كان مُتعبًا فهمُه، والوصولُ إلى أغواره وأعماقه صعبًا وشاقًّا..
مما منّ الله تعالى به عليّ أن دراستي النظامية كلها -من الثانوية إلى الدراسات العليا- تمت في: «ندوة العلماء» التي كانت تمر -آنذاك- بعصرها الذهبي، حيث كانت تحظى بوجود أحد مفاخر الزمان العلامة الإمام أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، الذي كنا نسعد بكلماته التوجيهية من حين لآخر، وكان يحفظ الطِّمّ والرِّمّ من روائع الشعر من اللغات الثلاث العربية والأردية والفارسية، فكان كثيرًا ما يستشهد بالأبيات الجميلة في خطاباته وكلماته، مما كان يجعلها أكثر أثرًا في نفوس السامعين، وأجلب لانتباههم إلى الكلام، فمن ذلك -فيما أذكر- أنه ذات مرة كان سماحة الشيخ الندوي رحمه الله يلقي كلمته أمام طلاب الندوة في قاعة: «جمعية الإصلاح» برواق شبلي (١) وكان في ذروة حماسه، يهز الطلاب هزًا، يحفز هممهم، ويحرك ساكنهم، ويشعل خامدهم، وكأنه شاب يتقد حماسًا وحرارة، ونشاطًا وحيوية.. وكنا – نحن الطلاب – آذانا صاغية.. مستمعين إليه أشد ما يكون الاستماع.. إذ ارتفع صوت المؤذن من منائر جامع ندوة العلماء.. فإذا به ينهي كلمته لساعته، ملبيًا لنداء الحق، ومنشدًا البيت الأردي التالي:
مرحبا مؤذن بروقت بولا
تیری آواز مکے اور مدینے جائے
(مرحبًا بالمؤذن.. فقد رفع الأذان في حينه.. ليصلْ صوتك – أيها المؤذن! – إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة).
فكان لهذا البيت أثر.. أقلُّ ما يقال عنه أنه كان مثل السحر..، فكأن البيت جعلنا نتواجد ونطرب تأثرًا وتمتعًا بسماعه، وكان خير ختام وأبلغ ختام.. بل مسك الختام للكلمة القوية المدوية المجلجلة.. ولم تكن مئة جملة من النثر ستفعل ما فعل هذا البيت الوحيد من إحداث الأثر والروعة في قلوب السامعين وهزِّ كيانِهم، وصدقوني أيها القراء أنني كلما ذكرت المناسبة.. تجدد في نفسي ذلك الأثر -أثر البيت- ووقعه، وحلاوته وروعته وقوته، وهزُّه للوجدان والعقل والقلب، وقد مضى على ذلك أكثر من أربعة عقود من الزمن..
وكذلك كان الشيخ الندوي رحمه الله ينشد -في غير قليل من خطبه وكلماته- بيتين عربيين إذا ما أشاد بعمل يستحق الإشادة والتنويه، ينشدهما في لذة ونوع من الطرب، وبأسلوبٍ ينم عن ابتهاج وارتياح داخلي، وربما يكرر إنشادهما في وقت واحد تركيزًا على معانيهما واستمتاعًا بصياغتهما الساحرة، وسبكهما الآسر، الممتع المطرب لصاحب الذوق الأدبي الرفيع، والبيتان لأبي فراس الحمداني:
صنائع فاق صانعها ففاقت
وغرس طاب غارسه فطابا
وكنا كالسهام إذا أصابت
مراميها فراميها أصابا
والمطلعون على سيرة الشيخ الندوي رحمه الله يعلمون بأنه كان كثيرًا ما يستشهد بأبيات العلامة إقبال وغيره من شعراء الأردية والفارسية في خطبه ومحاضراته، التي كان يلقيها أمام السادة العرب في البلدان العربية، إذا ما شعر بحاجة إليها -الأبيات الأردية والفارسية-، ثم كان يترجمها ويشرحها بالعربية.
ومما لا يخفي -كذلك- على القراء المطلعين أن: «روائع إقبال» كان ألفه الشيخ الندوي رحمه الله، استجابة لطلب أديب العربية الشهير الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله، الذي كان وجَهَّه إلى الندوي عبر رسالة مفتوحة كانت نشرت في مجلة كانت تصدر -فيما أظن- عن دمشق، فقد كان طالب فيها الطنطاويُّ الندويَّ بأن يعَرّف العرب بشخصية: «إقبال»، عبر تقديم نماذج من شعره، وشرْحِها بالعربية، حتى يكون العرب على بينة من الأمر فيما يتعلق بفكر إقبال ورسالته، فكتب الشيخ الندوي رحمه الله عدة مقالات، تناول فيها قصائد مختارة من شعر إقبال، وشرحَها -طبعًا- بالعربية بأسلوب أقرب إلى الشعر، أي تستطيع أن تقول إنه -الندوي- نقل معاني أبيات إقبال وروحَها إلى العربية بلغة شاعرة.. والذين يتقنون كلتا اللغتين: لغة شعر إقبال والعربية، يعلمون جيدًا كيف أن الشيخ نجح ووُفِّق في نقل كلام إقبال -نصًا روحًا- إلى العربية، وما أمكن ذلك إلا لكون الشيخ صاحبَ القدح المعلى في كلتا اللغتين، ومدركًا لمعاني شعر إقبال أتم ما يكون الإدراك، وأعتقد أن: «روائع إقبال» يشتمل على معظم هذه المقالات، التي كان كتبها الندوي -شرحًا لصفوة مختارة من أبيات إقبال- احترامًا لاقتراح الأستاذ علي الطنطاوي رحمه الله.
* * *
كما أشرت في بداية المقال أن رغبتي في الشعر كانت خفيفة جدًا في أول عهدي بالدراسة، رغم أن نشأتي كانت في بيئة علمية وأدبية، تحتضن العلم وتُخَرّج العلماء، كما تتذوق الشعر وتحتفي بالشعراء.. ولكن مع التقدم في الدراسة والمطالعة واشتغالي المستمر بالكتابة، كانت الرغبة في الشعر تتقدم يومًا فيومًا.. حتى صرت أتذوق الشعر وأحاول استعمال جيده في كتاباتي..
وأعظم من أعجبني من الشعراء العرب: أبو الطيب المتنبي، ولعل مما جعلني أفضله على غيره من شعراء العرب، أنني درّست ديوانه عدة سنوات في الجامعة الإسلامية دار العلوم حيدر آباد، فكان ذلك لي فرصة لقراءة شعر المتنبي والنظر فيه، والتدبر فيما يحتوي من المعاني المبتكرة، وما يتميز به من التعبيرات غير المسبوقة، الحقيقة أنني وجدت في شعر المتنبي من الجدة والطرافة والحكمة والروعة ما لم أجد مثله في شعر أي شاعر من الشعراء العرب، وقد تحدثت -في شيء من الإسهاب- عن مزايا شعر المتنبي في مقال لي، نشرته في وسائل التواصل الاجتماعي، فمن شاء فليراجعه.
لماذا أُحِبُّ إقبالًا
أما إقبال فهو -عندي- على رأس قائمة الشعراء العجم، وأحبهم إلي، و[رقم أول] عن اقتناع كامل.. ومن غير تردد ولا مواربة.. ولا أخشى في ذلك لومة لائم.. فأنا حر في حب من أشاء أن أحبه، وفي تفضيل من أراه أهلًا للتفضيل.. على أنني لا أُجبر أحدًا على أن يتبعني.. (وللناس فيما يعشقون مذاهب).
فشعر إقبال له خاصته وطعمه، وأثره وسحره، وجماله وجلاله، وحسنه وروعته، وتميزه وتفرده..
وإقبال إقبال.. وما أدراك ما إقبال؟
إقبال له من اسمه النصيب الأوفر..
فلقد كتب الله لـ: «إقبال» من الإقبال والعظمة والشعبية والمحبوبية والتقدم واللمعان والصيت والتقدير ما لم يقدر -لحد علمي- لأي شاعر من الشعراء العرب والعجم على اعترافي بفضلهم حسب مراتبهم..، فبلغ من ذلك مرتبة لا يسمو إليها أمل، ومنزلة تتحلب لها الأفواه، وتتلمظ لها الشفاه، ويُقِرّ بعظمته من كان له، ومن كان عليه.
وليس ذلك الإقبال لـ: «إقبال» لكونه أنبغَ الشعراء أو أعظمهم، أو أحبَّهم إلى الله من جميع الشعراء.. والحقيقة أنني لا أكاد أجد تفسيرًا ولا تعليلًا ولا توجيهًا لذلك.. إلا أن أقول إن ذلك كان من فضل الله على إقبال، والله يختص بفضله ورحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم..
رغم ذلك.. لا بد من القول مما ليس منه بد.. وهو أن في شاعرية: «إقبال» شيئًا ما.. شيئًا يكاد يندر -إذا لم نقل: ينعدم- في شاعرية غيره.. وهو شيء يحَس به.. يحِس به القارئ ويتمتع، ويهتز له ويطرب.. يحس كأن مسًّا كهربائيًّا أصابه، أو موجة من الفرح والاهتزاز سرت بين جوانحه.. أو كيفية داخلية عجيبة هزت كيانه.. وملأته حرارة وطموحًا، وروعة وعجبًا، ونشوة وطربًا، وحركت مشاعره، ودغدغت عواطفه، وأيقظت خموده، وأنعشت هموده، وربما أجرت دموعه، وهاجت شجونه، وزادته إيمانًا على إيمان بإسلامه ومقوماته وتراثه.
ذلك الشيء اللذيذ الفريد الغريب المطرب الممتع، الذي يتأثر به القلب، ويتمتع به العقل، ويهتز به الوجدان، ويطرب له الشعور، ولكن يعجز عن وصفه -حق الوصف- القلم، ولا يقدر عليه اللسان.
شاعرية إقبال.. الله أكبر.. كأنها السماء والثريا والعرش المعلى بالقياس إلى شاعرية كثير من الشعراء.. إذا لم نقل: إلى معظمهم!
إقبال شاعر اللفظ والمعنى.. شاعر الثورة والصحوة واليقظة.. شاعر الحمية والغيرة، شاعر الإثارة والإنارة.. شاعر الطموح والمجد والعظمة.. شاعر الإنسانية كلها..
إنه شاعر الإسلام.. بل بلفظ أدق: شاعر القرآن.. إذا عرّفنا بشخصيته في كلمة واحدة.. ووضعنا أصبعنا على أعظم ميزة لشاعريته..
فهو -أولًا وأخيرًا- شاعر القرآن.. يصدر عنه، ويستلهم منه، ويستند إليه في جميع أفكاره وآرائه..
نعم. شاعرية إقبال قرآنية الطابع، إسلامية الروح، قدسية الإلهام، سحرية الأنغام، سامية الأهداف، عظيمة المقاصد..
شاعرية إقبال – بمبناها ومعناها – أقل ما تستحق أن توصف بأنها موهبة محضة نادرة، خُص بها شاعرنا من لدن الوهاب الحكيم.
وإن السر في الإعجاب العام العظيم، الذي حظي به شعر إقبال، هو إيمان إقبال، وحبه لرسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.
فهما سمتان بارزتان واضحتان تتجليان -كضوء الشمس في رابعة النهار- في شعر إقبال.
والحقيقة أنني.. -وطبعًا لا أتحدث إلا عن نفسي وعن رأيي الشخصي- أغبط إقبال بإيمانه بالإسلام، وحبه للرسول صلى الله عليه وسلم.
فإن اعتزازه بالإسلام، وإيمانه بكونه الحل الوحيد الأوحد لمشاكل الإنسانية، وكونِه: «سفينة نوح» في كل عاصفة وطوفان، وفي كل زمان ومكان، وكذلك تشبعه بحب الرسول صلى الله عليه وسلم حبًّا خالط لحمه ودمه، وروحه وكيانه، وجميع عروقه وشرايينه.. شيئان يكمن فيهما سر عظمة شعر إقبال، فهما اللذان أضفيا على شعره ما أضفيا من هذا السحر الحلال، والروعة، والقوة، والقبول، والإعجاب ما لم يقدر لشعر الكثيرين من غيره من الشعراء.
والحقيقة أن شاعرية إقبال من العظمة بحيث لا يقدر على إنكارها إلا حقود حسود، أو متجاهل يتعامى..
حقًّا.. كان إقبال ذا شاعرية فذة، تكاد لم يسبق لها نظير في أي لغة من اللغات.
مشبوب العاطفة، جياش الفؤاد، مشتعل حماسة وغيرة للإسلام، ذو ذاكرة وقادة، وطبيعة منقادة، يجيد المرمى، ويجيد التصويب، ويحسن التعبير، مع علم غزير ومادة حاضرة واطلاع واسع على المد والجزر من تاريخ الإسلام.
شاعر لا يشق له غبار، مع إيمانه بعظمة الإسلام، وحبه العجيب للنبي العربي -صلى الله عليه وسلم- وحفظه لناموس الشريعة، ومقام الدين، وهذا الذي فضَلَ به الشعراءَ وفاقهم في الزمان، وبزَّ به الأقران.
يستشرف دائمًا آفاقًا أعلى فأعلى.. ويتوق إلى أسمى من النجوم..، فمن أبياته:
ستاروں سے آگے جہاں اور بہی ہیں
(إن وراء الكواكب – أيضًا – عوالم وكائنات أخرى).
وكما كان قال صديقنا المتنبي:
إذا غامرتَ في شَرفٍ مَروم
فلا تقنع بما دون النجوم
من أعظم مزايا شاعرية إقبال، أنها طاهرة من العري والمجون، والغزل والتشبيب ووصف محاسن المرأة.. من مثل هذه الأبيات:
غراء فرعاء مصقول عوارضها
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحِلُ
كأن مشيتها من بيت جارتها
مرُّ السحابة لا ريث ولا عجل
أو كقول شاعر عربي آخر:
كشفت ثلاث ذوائبٍ من شعرها
في ليلة فأرت ليالي أربعا
واستقبلت قمر السماء بوجهها
فأرتني القمرين في وقت معا
فلم تكن الشاعرية عنده وسيلة للترويح والتسلية والتعبير عن الغرام والهيام والعشق والحب الكاذب.. وإنما كانت عنده أمانة من الله، يُسأل عنها يوم القيامة، هل أداها إلى أهلها حق الأداء، أم ضيعها..
ونحن نشهد أن إقبالًا راعى حرمة الأمانة، وأحسن القيام بتبعاتها، فاستخدمها في تبليغ رسالة صاحب الأمانة – جل وعلا – إلى خلقه، رسالةِ الإسلام والقرآن.. فأجاد البلاغ وأحسن البيان..
* * *
إن الترجمة في حد ذاتها عمل صعب ودقيق.. وما بالك إذا كانت ترجمة الشعر.. فالمهمة أصعب..
أما إذا كان الشعر شعر شاعر مثل إقبال.. فدونه شوك وقتاد..
فمن أين.. وكيف نأتي في الترجمة بما يتميز به شعره من الجيَشان والغليَان والفيَضان.. والتوهج بل التوقد.. والسيل بل التدفق.. والتحليق بل الطيران.. والانسيابية والعفوية.. وعذوبة العبارات.. وقوة التعبيرات.. ولطف الإشارات، ومتعة الإيحاءات والرموز والكنايات والاستعارات والتشبيهات.. والشوارد والفرائد.. وفوق ذلك كله.. تلك العاطفة والروح والقلب والإيمان والحب والإخلاص الذي كان وراء شعر إقبال..
فترجمة الروح ونقلها من لغة إلى أخرى أصعب من زحزحة الجبال وحمل الصخور..
ولكن.. وكما يقال: ما لا يدرك كله، لا يترك جله.. و{إن لم يصبها وابل فطل} و: أصغر رقم خير من الصفر..
فبناء على ذلك.. أقوم بما أستطيع.. فقد أردت -مستعينًا بالله- أن أنتقي قصائد وأبياتًا من شعر إقبال، وأحاول شرحها ونقل معانيها ومفاهيمها إلى العربية، بأيسر أسلوب يستسيغه القارئ..
والحقيقة أن رسالة إقبال لأحرى بأن تنشر على أوسع نطاق، وتبلغ إلى أكبر عدد ممكن من أبناء الإسلام.. وبمختلف لغات العالم، لأن رسالته رسالة القرآن، ورسالة القرآن والإسلام ليست حكرًا على المسلمين الناطقين بالأردية والفارسية فقط، أو موجهة إليهم خاصة، بل إنما هي دعوة ربانية عامة، يجب أن تصل إلى جميع أبناء الإسلام، بل وإلى بني البشر كافة.
والله الموفق!
الهوامش:
(١) أقدم مساكن الطلاب في ندوة العلماء.
(الخميس: ٢٣ من جمادى الآخرة ١٤٤٦ ھ = ٢٧ من ديسمبر ٢٠٢٤ م)