محمد نعمان الدين الندوي يكتب: في ظلال فكر إقبال: (٣) رسالة الجد والكفاح

أيها القراء الكرام! نواصل في هذه الحلقة الجديدة شرحًا لأبيات أخرى للعلامة إقبال، الذي يتحدث فيها عن أهمية وقت: «السحر» ومعنى: «القدر»، وتكاسلِ أبناء الأمة وإخلادهم إلى الراحة، كما يتحدث في بعض الأبيات عن أسفه وحزنه لفراق الأحبة ممن كان يعتبرهم أهلًا للمصاحبة والمؤانسة وتبادل الآراء، وتفَهُّم فكرِه، والإصغاء إلى كلامه، والتجاوب مع رسالته.
هذه القصيدة يضمها: «بال جبريل» الذي كان نشر سنة ١٩٣٥م، وكانت المنطقة تشهد – آنذاك – تطورات سياسية واجتماعية هامة، وكان إقبال يهمه ويقلقه وضع المسلمين المتردي، وتدهورهم الفكري وضعفهم الروحي، فحاول أن يدعو المسلمين -بهذه القصيدة- إلى: «الذاتية» و:«السعي والعمل» و:«اليقظة الروحية».
كان يعتقد إقبال أنه لا يُقتَصَر على العبادة وحدها، بل لا بد معها -كذلك- من الجِدّ والكفاح، ومعرفة الذات والغوص في أعماق معاني «القدر»، والنظر في وضع المسلمين الحاضر، وضرورة إصلاحه.
وهذه هي خلاصة هذه القصيدة، التي نقوم بشرحها في هذه الحلقة.
* * *
وصفة لـ: علاج الهموم..
البيت:
مجھے آہ وفغانِ نیم شب کا پھر پیام آیا
تھم اے رہ رو کہ شاید پھر کوئی مشکل مقام آیا
الترجمة:
وصلتني الرسالة مرة أخرى..: قم في الليل.. وقتَ السحر، وتضرع إلى الله وابتهل واخضع له.
يا صاح -أيها المسافر- توقف وتمهل! فلعل مشكلة واجهتنا من جديد.. أو صعوبة جديدة تعترض طريقنا..
الشرح: يخاطب الشاعر كل مهموم ومُثقَلٍ بالأحزان والشجون، وينصح كل رجل إذا حَزَبَ الأمر وطمّ الخطب قائلًا: أنا أدلك على الوصفة الناجعة لتخفيف آلامك ومسح دموعك..: عليك بالسحر.. أقبل فيه على الله بأناتك وآهاتك، ودعواتك وعبراتك، وسجداتك وصلواتك.. تنفرج عنك همومك، وتنحل مشكلاتك، وتيسر لك أمورك.
ومعلوم أن إقبالًا نفسه ظل حريصًا على اغتنام: «السحر» طول حياته، ولم يفته: «التبكير» حتى خلال إقامته في لندن، رغم بردها القارس، يقول في بيت: «رغم أن شتاء إنجلترا كان قارسًا، وكان الهواء البارد يعمل في الجسم عمل السيف، ولكنني لم أترك في لندن التبكير في القيام»، وبما أنه كان عارفًا بقيمة ساعات السحر اللطيفة الملهمة، كان لا يألو جهدًا في اغتنامها، ولا يفضل عليها وقتًا آخر، ولا يرضى عنها بديلًا، يقول: «خذ مني ما شئت يا رب، ولكن لا تسلبني أنة السحر»، ولا شك أن هذا التبكير، والتعرض لنفحات السحر، ومناجاة الرب في هذه الساعة المباركة، والاتصال بالطبيعة اتصالًا مباشرًا، كان لكل ذلك، أثره في إعطاء شاعرية إقبال هذه القوةَ والقبول والسِّحْر والتميز، وكان ذلك -التبكير في القيام- عاملًا مهمًّا من عوامل تكوين شخصيته، كما أفاد بذلك الشيخ الندوي رحمه الله في: «روائع إقبال».
* * *
ما معنى: القدر؟
البيت:
ذرا تقدیر کی گہرائیوں میں ڈوب جا تو بھی
کہ اس جنگاہ سے میں بن کے تیغِ بے نیام آیا
الترجمة:
(أيها المخاطب) أغرق -أنت أيضًا- في أعماق: «القدر»، فأنا خبير بساحة الحرب هذه، وقد خرجت منها سيفًا بلا غمد.
الشرح: يقول الشاعر: الظاهر أن القدر أمر مبرم، والقضاء محسوم حسمًا باتًّا، لا تَخُلُّفَ عنه، ولا تعديل فيه، ولكن لما خضتُ في أعماق: «القدر» وأوغلت في قعره، اكتشفت أن الإنسان يصنع تاريخه بنفسه، ويكتب قدره بيده.. بجهده المتصل وكفاحه المستمر، وعمله الدائب.
فالشاعر لما نزل في أعماق: «القدر»، عرف حقيقته، فخرج من ساحة الحرب من الدنيا سيفًا بلا غمد، أي صار من القوة والثقة بمكان بحيث عاد صانعَ قدره، وكاتبَه – بنفسه – بدلًا من أن يكون قانعًا بقدره، راضيًا عنه على مضض، أو مستسلمًا له طوعًا أو كرهًا..
الخلاصة أن الشاعر يثير الهمم، ويحرك العزائم، ويملأ أبناء الأمة نشاطًا وحماسًا وطموحًا، ويدعوهم إلى ترك حياة التكاسل والتقاعس بحجة الرضا بالقدر، والتعلل بالقضاء، فهم قادرون -بإذن الله- على كتابة أقدارهم بأيديهم.. بشرط أن يكون الجِدُّ والعمل نصب أعينهم ومحور حياتهم، فلا يعرفوا للتعب معنًى، ولا يستريحوا إلى الراحة، فالقناعة بالدُّوْن والرضا بالواقع المزري، وتبريرُ الفشل والكسل بحجة الاستسلام للقضاء والقدر شيمة الفارين من متاعب الحياة، وآيةُ الكسالى البطالين العاجزين عن السعي والعمل، فسنة الله أن لا تقدم ولا ازدهار، ولا نجاح ولا صدارة على منصة العالم -للأفراد والأمم- إلا بالعمل والعمل فقط، وأما المتكاسلون المؤثرون للراحة والقعود، فليس لهم مكان إلا في ذيل القافلة ومؤخرة الركب، وليس لهم إلا أن يقضوا حياتهم متشائمين ناحين على القدر، ناعين على الظروف، راثين للأوضاع، خاضعين خانعين قانعين بالتافه والفتات، فلا يلومُنّ إلا أنفسهم.
* * *
النعي على تكاسل الأمة
البيت:
یہ مصرع لکھ دیا کس شوخ نے محرابِ مسجد پر
ناداں گر گئے سجدوں میں جب وقتِ قیام آیا
الترجمة:
أيّ ظريف متندر كتب على محراب المسجد هذا المصراع؟: خرّ الحمقاء سُجَّدًا حينما حان وقت القيام…!
الشرح: ينعى الشاعر على المسلمين المعاصرين تكاسلهم وتقاعسهم وفرارهم من الجد والكفاح، فيقول: إذا جدّ الجَد واقتضت الظروفُ العملَ والسعي، خارت قواهم وضعفت هممهم، واستسلموا للكسل والخور، وغلب عليهم اليأس والقنوط، وذلك لتراخيهم عن العمل وانكسار همتهم، وكونِهم قد تجردوا من صفات العزم والعزيمة، والصبر والمصابرة، والنخوة والإباء والرجولة.
* * *
معاناة إقبال بفقد الأحباب
البيت:
چل اے میری غریبی کا تماشا دیکھنے والے
وہ محفل اٹھ گئی جس دم تو مجھ تک دورِ جام آیا
الترجمة:
امض (تنحَّ وابتعد) أيها المتفرج على بؤسي وشقائي! فإلى -أو قبل- أن يأتي دوري لتناول الكأس قد انفض الجمع (وتفرق الندماء).
الشرح: لعل الشاعر يتحسر ويتأسف على أنه بقي وحيدا غريبًا.. فكأنه يشعر بمرارة الغربة، ويكابد وحشة الفراق، ويقاسي صدمة البعد عن الأحباب الخلص الأوفياء، ومضَّ الحرمان من معايشتهم ومؤانستهم، فقد مضى أولئك الذين كان يأنس بهم، ويفضي إليهم بذات قلبه، ويحدثهم حديث نفسه، وكانوا جديرين بتلقي رسالته ومؤهلين لسماع كلامه، وتذوق فنه، واكتناه روعة صناعته.
ولعل بيت شاعرنا هذا يشبه البيت المعروف الذي قاله الصحابي الجليل عمرو بن معديكرب:
ذهب الذين أحبهم
وبقيت مثل السيف فردًا
فكأن الشاعر يرثي نفسه بنفسه، ويذكر سبب معاناته وشقائه، أنه يفتقد الآن أولئك الرجال الذين لو كانوا…، لأصغوا لندائه، وتجاوبوا مع حركة يقظته، ورحبوا برسالته، واستمعوا إلى صوته، وهَبُّوا لتأييده ومساندته، وتكاتفوا معه، وشَدُّوا أزره. وكانوا سندًا له وعونًا، في نشر فكره، وتبليغ رسالته على نطاق أوسع، ومدى أرحب.
من لم يكن ذا صديقٍ
يُفضِي إليه بسِرّه
ويستريح إليه
في خيرِ أمرٍ وشره
فليس يعرفُ طعمًا
لِحُلْوِ عيشٍ أومُرِّه
* * *
دور شعر إقبال في إيقاظ الأمة
البيت:
دیا اقبال نے ہندی مسلمانوں کو سوز اپنا
یہ ایک مردِ تن آساں تھا، تن آسانوں کے کام آیا
الترجمة:
وهب إقبال مسلمي الهند ما يحمل من التوجع والقلق والاضطراب.
لقد كان هذا – كما يصف نفسه متواضعًا – رجلًا يحب الدعة والراحة، و (لكنه) نفع المحبين للدعة والراحة.
الشرح:
كأنّ الشاعر يعتز بأنه نجح في مهمته، ووُفِّق في أداء رسالته، فقد نجح في نقل ما كان يحمل في قلبه من القلق والاضطراب، والهم والتوجع على حالة المسلمين، إلى أبناء الأمة الإسلامية الهندية، فجعلهم يحملون ما يحمله من العواطف والميول والآمال والآلام، ويتوجعون كتوجعه، ويتألمون مثل تألمه لواقع المسلمين المرير.
الشاعر يعترف -نابعًا من تواضعه- بضعغه، وحبه للراحة، وأنه ليس من رجال المعارك، ولا من أصحاب حومة الوغى، ولا من فرسان حلبة الكفاح والنضال، وكما يصرح بأن أمته -الإسلامية الهندية- هي الأخرى مثله -سواء بسواء- في صفاتها وأخلاقها، فهي -أيضًا- مدمنة للراحة، بعيدة عن السعي والعمل.
ولكنه -الشاعر- رغم ضعفه وحبه للراحة – نجح – إلى حد ما – في نقل عواطفه وهمومه إلى أمته، وإيقاظها من غفلتها، وتحريك جمودها، وتحميسها إلى السعي، وتنشيطها للعمل.
وهذا صحيح.. فإقبال بشعره الثائر بنى أمة.. فأحسن البناء، فأبياته نفخت الروح في الأمة الإسلامية الهندية بصفة خاصة، وأحدثت فيها الكراهية للاحتلال، فقامت على بكرة أبيها ضد الاستعمار البغيض، وما قعدت ولا استراحت إلا بعد أن طردت المحتل، وطهرت البلاد من رجسه.
كما أشعرت أبياتُ إقبال الأمةَ الإسلامية بقيمتها، وذكَّرتها بماضيها المجيد، ودعتها – بقوة وحماس – إلى استعادة عزها التليد.
لقد كان إقبال شاعرًا لا يلحق شأوه، ولا يشق غباره، وغطى بشعره الهزَّازِ الشعراءَ والأدباءَ، وحصد إعجاب الجماهير وحبهم، فكان شعره حديث النوادي والمجامع، وكان الشباب يتسابقون في إنشاده والتغني به، وكانت الأمسيات الشعرية الشعبية تقام خصيصا لسماع شعر إقبال، فكان يتحف الحضور بأحدث قصائده، وكانت قصائده زينة المجالس والمجلات والجرائد.
والحقيقة أن شاعرية إقبال ملأت الجو حركة مباركة، كأن الأمة كانت منها على ميعاد، ولها في شوق وانتظار، وأحدثت يقظةً عمّت الجماهير المسلمة في الهند خاصة، وشملت البلاد، وشغلت الصحف، وأرهفت الشعور، وعبرت عن العاطفة العامة المكبوتة، وتجاوبت معها الخاصة والعامة، والشبان والشيوخ، والرجال والنساء.
فمن هنا.. حُقّ لإقبال أن يقول معتزًا بأنه نجح في نقل همومه وعواطفه إلى الأمة الإسلامية الهندية، فصارت تحمل هي نفس هموم إقبال، وتتفاعل مع رسالته، وتستجيب لأفكاره.
* * *
الذاتية ومعرفة الذات
البيت:
اسی اقبال کی میں جستجو کرتا رہا برسوں
بڑی مدت کے بعد آخر وہ شاہیں زیرِ دام آیا (١)
الترجمة:
ذاك هو: «إقبال» الذي ظلت أبحث عنه سنين طوالًا، وأخيرا.. وبعد لأي وقع الشاهين في حبائل فخي، ونجحت في اصطياده.
الشرح:
يقول الشاعر: لقد أنفقت أعوامًا كثيرة بحثًا عن هذا الـ: «إقبال»، الذي يتعلق بداخلي، والذي يتصف بصفات: «الشاهين» -الطائر الذي يطير عاليًا جدّا-، وهذا من حسن حظي أنني ظفرت -أخيرًا- بصيده.. ولو بعد جهد جهيد.
يشير إقبال في هذا البيت إلى ما حباه الله به من الطموح، والتوق إلى المعالي، وسمو الهمة.
يقول إنه ظل باحثًا عن: «ذاتيته» الحقيقية سنين مديدة، وأخيرًا ظفر بمبتغاه، وعثر بمأموله، وهذا هو الذي عبر عنه بأن «الشاهين» -الذي يمثل رمز: «الذاتية» و: «معرفة الذات» عند إقبال- وقع في حبائل فخي.
والمراد بـ: «ذاك» هو: «إقبال»: «الذاتية» السامية الحرة، التي تمثل المحور الأساسي لشاعرية إقبال.
والحقيقة أن إقبالًا يحكي في هذا البيت قصة رحلته المعنوية الطويلة المضنية، التي قام بها في سبيل: «طلبه الروحي» والبحث عن: «الذاتية».
وتلك هي الرسالة الأساسية لشاعرية إقبال.
إن إقبالًا يذكر هنا: «إقبالًا» تعبيرًا عن: «شخصيته» هو، أو: «الذاتية» التي تدور حولها فلسفة شاعريته، ويعني ذلك أنه يجب على الإنسان السعي لمعرفة مواهبه وقدراته، ثم صقلها واستثمارها في نفع نفسه وغيره.
هذا. وقد تكرر ذكر: «الشاهين» في شاعرية إقبال، وهو في الحقيقة رمز يريد به: «الذاتية» و«الحرية» والمقاصد السامية.
ومعلوم أن: «الشاهين» طائر يطير عاليًا في الفضاء، ولا يحول دون علو طيرانه أي حائل، ولا يحب أي محاولة للحد من طيرانه فضلًا عن منعه من الطيران.
هذا. وتكمن في أعماق معنى البيت دعوة لطيفة حكيمة إلى التحلي بصفات: «الطموح» و«علو الهمة» و«سمو المقاصد»، كما قال الشاعر في بيت آخر:
إن هناك عوالم أخرى – أيضًا – وراء النجوم.. (ستاروں سے آگے جہاں اور بہی ہیں) ۔
فهمة المؤمن لا تنتهي عند حد، وطموحه لا حد له ولا نهاية، فهو لا يزال يجد ويكدح إلى أن يلقى ربه.. {يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحًا فملاقيه} [الانشقاق: ٦].
الهوامش:
(١) ترجم بعض الفضلاء العرب: «الشاهين» بـ: «الباز».. ولكن فيه نظر..
– ترجمة الأبيات ليست حرفية تمامًا، وإنما هي جامعة بين الحرفية والمعنوية..
(الجمعة: ٨ من شعبان ١٤٤٦ھ = ٧ من فبراير – شباط – ٢٠٢٥م).