قبل ربع قرن كاملًا، في هذا التاريخ نفسه -اليوم الواحد والثلاثين- (31) من ديسمبر ١٩٩٩م، الموافق ٢٢ من رمضان ١٤٢٠ھ، كان توفي سماحة الشيخ الإمام العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله، بعد حياة حافلة بالأعمال والإنجازات، التي لا تخفى على أحد.
وكانت شخصية سماحته -رحمه الله- محترمة ومقبولة لدى كافة أوساط المسلمين، محظية بالشعبية العامة المنقطعة النظير، وكان المسلمون في الهند ينظرون -بعد الله- إلى سماحته، ويهرعون إليه في حل مشاكلهم وقضاياهم، وما أكثرها، فكان سماحته -رحمه الله- «عمدتهم» -بعد الله- في ظروفهم الحالكة المدلهمة، و«مظلتهم» التي يستظلون بظلالها الوارفة، و«قوتهم» على درب الحق والنضال المفروش بالشوك والقتاد، التي يتقوون بها، وكانت الحكومة -نفسها- تشعر بثقل شخصية سماحته وعظمتها، وتحسب لها ألف حساب، فهو -رحمه الله- رجل لا يرهبه تهديد أو وعيد، ولا يخضعه إغراء أو ترغيب، فهناك عدة قضايا حلت -بعد فضل الله ونصره وتوفيقه- بفضل جهود سماحة الشيخ الندوي رحمه الله، ومساعيه المخلصة، ومواقفه الإيمانية الصامدة، وحكمته وحنكته وثقل شخصيته، مع مشاركة الزعماء والعلماء الآخرين العاملين المعنيين بقضايا المسلمين في الهند.
كما كان الإمام الندوي -رحمه الله- على رأس المعنيين بقضايا الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، لا تهتز ثوابته في المحن والنكبات، ولم يتوان في جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وتواصلِه مع مشاكلهم وقضاياهم، وقلبه يحمل هموم جميع المسلمين -أينما كانوا- ويسعى عمليًّا في حلها وتفريجها.
فمن «قضية فلسطين» -القضية الأولى للمسلمين- إلى قضية.. -بل في تعبير أصح- «فتنة القومية» إلى: «القضية العراقية الكويتية» كانت له فيها رؤى ثابتة واضحة، ومواقف حكيمة شجاعة تنبني على أسس من الكتاب والسنة.
أما «فتنة القومية العربية» فقد أعلن الإمام الندوي -رحمه الله- الحرب عليها حربًا لا هوادة فيها ولا رحمة، واعتبر ذلك أفضل جهاد وأعلى عبادة، وهو الذي شعر -فيما نعلم لأول مرة- بخطورة هذه الفتنة وأضرارها الكبرى على الوحدة الإسلامية الجامعة، وموقفُه الإيماني الغيور الحاسم منها معروف لا يحتاج إلى بيان، فكتب في مطاردة «فتنة القومية» والقضاء عليها رسائل، وألقى محاضرات، وحذر وسافر والتقى بالعلماء والمفكرين العرب، يبين لهم فساد هتافات «القومية» و«العروبة» وأنها هتافات جاهلية منتنة يجب البعد منها.
قضية فلسطين
فلسطين صرة الكرة الأرضية، وملتقى الحضارات، ومحل الطامعين منذ فجر التأريخ، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى ذلك في الحديث الشريف الذي يناشد به الصحابي الجليل معاذ بن جبل حيث يقول: «إن الله سيفتح عليكم الشام من بعدي، من العريش إلى الفرات، رجالها ونساؤها وإماؤها مرابطون إلى يوم القيامة، فمن اختار منكم ساحلًا من سواحل الشام أو بيت المقدس، فهو في جهاد إلى يوم القيامة».
وقد طمع الطامعون في فلسطين أكثر من مرة فدهموها بالجيوش لتحقيق مطامعهم، فجاءها جحافل الصليبيين يحملون عقيدتهم، ويرفعون صليبهم، وتمكنوا من دهر المسلمين ردحًا من الزمن، لم يسترجعها المسلمون إلا عند ما استظلوا برايتهم الدينية.
وأجمعوا أمرهم وكبروا ربهم، وانطلقوا مجاهدين بقيادة صلاح الدين الأيوبي قرابة عقدين من السنين، فكان الفتح المبين، واندحر الصليبيون، وتحررت فلسطين.
وهذه هي السبيل الوحيدة -عند الإمام الندوي أيضاً- إلى التحرير، وهذا هو الحل للقضية الفلسطينية، فكان موقفه منها موقف كل غيور على المقدسات الإسلامية المحتلة التي تداس كرامتها بأنجس الخلق من اليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم، يعتقد أن تحرير المسجد الأقصى وحل قضية فلسطين لا يتم برفع الشعارات الفارغة والهتافات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، واستجداء الحرية من المتآمرين على سلبها، ولا يتم بقيادات غير مخلصة وغير ملتزمة بمقتضيات الإسلام، جعلت القضية قضية قومية عربية فقط، وهي قضية جميع المسلمين، لأنها تتعلق بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ولا يتم بمؤتمرات السلام، أو «اتفاقيات السلام»، وبالأصح: «اتفاقيات الاستسلام»، إنما يمكن تحرير القدس -عند الإمام- بالجهاد الخالص، وبالمغامرين المجاهدين المضحين بأنفسهم ونفائسهم، وراحتهم من أجل القضية، يقول الشيخ:
«إن قضية فلسطين سهلة هينة، وانتصار العرب مضمون إذا كانوا أحرارا في تصرفهم، مالكين لزمامهم، مدبرين لسياستهم، مغامرين بأرواحهم وجندهم، ومحكمين لسيفهم وسنانهم، واثقين بنصر الله معتمدين على سواعدهم فقط، متمردين على المادة والشهوات، مصممين على الكفاح والجهاد».
وقد عثرنا على وثيقة تأييد لقضية فلسطين، خطها الإمام الندوي بيمينه مؤكداً – فيها – على تحريم التنازل عن أي جزء من فلسطين، ومبديًا موافقته على الفتوى التي أصدرها علماء المسلمين بهذا الصدد، ونحن إذ نتشرف بنشر هذه الوثيقة التأريخية التذكارية المباركة لنشكر صحيفة «الوعد» الشقيقة التي أتاحت لنا فرصة الاطلاع على هذه الوثيقة الهامة بنشرها في بعض أعدادها.
وفيما يلي نص وثيقة الإمام أبي الحسن الندوي حول فلسطين رحمه الله: 👇