محمد نعمان الدين الندوي يكتب: من نجوم الخير إلى نجوم الشر!
النجوم كلمة معروفة مباركة، ورد ذكرها في مصدري الوحي الأساسيين: «الكتاب والسنة»:
{فلا أقسم بمواقع النجوم} الواقعة: ٧٥
{وبالنجم هم يهتدون} النحل: ١٦
وسميت النجوم: «مصابيح» لإضاءتها: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} الملك: ٥
وجعلَها الله تعالى زينة السماء وجمالها: {وزينا السماء الدنيا بزينة الكواكب} الصافات: ٦
وإلى ذلك.. هناك سورة من سور القرآن الكريم، سميت بـ: «النجم»: {والنجم إذا هوى}.
وبين الرسول صلى الله عليه وسلم عظم قدر صحابته ورفعة مكانتهم، وكونَهم جديرين -كل الجدارة- بالائتساء بهم والاستضاءة بسيرتهم، فشبههم بـ: «النجوم»، فقال: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم». (١)
فكأن كلمة (النجوم) صارت رمزًا للدلالة على النور والرشد والهدى، فما أن يطرْق ذِكرُها السمعَ أو يقع النظرُ عليها -مكتوبة- إلا ويتبادر إلى الذهن معنى الاستنارة والاهتداء أو الإنارة والهداية مُمَثَّلا -أولًا- في نجوم السماء وكواكبها المتلألئة المضيئة التي يُهتدى بها في ظلمات الليل، و-ثانيًا- في نجوم الأرض من أولئكم الأعلام الهداة الذين يقبسون الخلق نورًا يضيء له الطريق، وحرارة تجدد له الحياة، وقوة تنفخ فيه الروح والنشاط.
و-طبعًا- على رأس هؤلاء الأعلام الهادين المهديين من نجوم الأرض، وفي طليعتهم جِيلُ الصحابة الأغر الذي يعد -بكل جدارة واستحقاق، وبدون أي بحث ولا جدال أو قيل وقال- أفضل أجيال البشر بعد الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فهم السابقون إلى الإسلام، والمخاطَبون الأولون للقرآن الكريم، الذين تربوا في أحضان النبوة المباركة، وتشربوا القرآن الكريم وتشبعوه فهمًا وعملًا، وصبغوا حياتهم بالصبغة النبوية صبغًا كاملًا، وقدموا من التضحيات في سبيل الدين ما لا يتصور من غيرهم، ونشروا نور الإسلام في معظم أنحاء المعمورة.
كما يلي الصحابةَ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين -في التشبه بالنجوم- مَن والاهم من أئمة الحق والهدى والدعوة، السائرين على دربهم، القافين على آثارهم، ولم يخل منهم أي عصر أو منطقة من فجر الإسلام إلى يومنا هذا، وقد تحدث الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله عن أبرز أعلام الدعوة في سلسلة: «رجال الفكر والدعوة».
فأمثال هؤلاء من رجال مسيرة الدعوة الحافلة وقافلة العلم المباركة -أيضَا- يستحقون أن يسموا: «النجوم»، لأنهم يحذون حذوها، أو يشبهونها في الإنارة والهداية..
فطابق المشبَّهُ المشبهَ به للتماثل المعنوي في شرف العمل والقيام بالمهمة..
فنعم التشبيه.. وما أروعه من وجه الشَّبَه.. وأحسِن به وأجمِل من تجانس وانسجام بين المشبه والمشبه به..
وكفى بذلك دليلًا على فضل الصحابة الغر الميامين، وكونهم في قمة مقام: «الأسوة» و«القدوة»، و-من ثم- على أهليتهم لهذا التشبيه الموحي المبارك!
ولكن.. ولكن.. في هذا العصر العجيب الذي يرينا كل يوم من العجائب والغرائب ما يدهش له العقل، وتحار فيه العين، ويُبكي أو يضحك.. وشر البلية ما يضحك!
العصر الذي تغيرت فيه القيم، ومدلولات الكلمات ومعاني المسميات وانقلبت رأسًا على عقب.. فسُمِّي الكذبُ لباقة، والمكر دهاء، والرقص والغناء فنًا لطيفًا، والراح شرابًا روحيًا، والتدين تطرفًا، والالتزام بالثوابت أصولية وتزمتًا، والسفور والعري تحضرًا وتقدمًا، والحجاب رجعية وتخلفًا.. وما إلى ذلك من المفاهيم المغلوطة، التي تعارض العقل فضلًا عن ثوابت الأديان والموروثات، التي درجت عليها الأجيال، وألفتها الفطر السليمة عبر المسيرة البشرية قاطبة.
فلا غرابة – في هذا العصر الهائج المائج بالغرائب والعجائب – أن يسمى رجال السينما بـ: «النجوم».
نعم. إذا أطلقت كلمة: «النجوم» في وسائل الإعلام في هذه الأيام، مثل: [أخبار النجوم]، فتعني أخبار الفنانين والفنانات من رجال السينما.. فتنة العصر الكبرى وحبالة الشيطان العظمى..
فدورها في نشر الرذائل واقع لا يخفى على أحد..
وضحاياها -من الشباب والفتيات خاصة- بأعداد لا تقدر ولا تحصى..
والحقيقة أن دُوْر السينما ليست إلا دُوْر المآثم ومواطن الرذائل، وقد سماها بعض الأدباء مقابرَ العفة والحياء، ومصارعَ الحشمة والوقار، التي تُمَثَّل على مسارحها مناظر تخدش الحياء، وتدمر الرجولة والصحة والشباب، وتقضي على الغيرة، وتغري بالشر والفساد، وتُهيج عواطف الشهوة والجنس، وتُعلِّم صنوفا من الاحتيال والإفساد، وتدرب على أحدث ما وصل إليه الذهن الإجرامي الجديد من طرائق وأساليب وأنواع الرذيلة والمنكر والفحشاء.
فكيف يصح في شريعة العقل – فضلًا عن الغيرة فضلًا عن الدين – تسمية رجال السينما بـ: «النجوم» يا ترى؟!
وهم -رجال السينما- في نشر الرذائل متخصصون، وفي الدعوة إلى الفواحش والمنكرات بارعون..
إنهم هَدّامُو الغيرة والحياء والإيمان، ومُزينو القبائح الخلقية ومروجوها بأقوالهم وأفعالهم.
فمن أين تجوز تسميتهم بـ: «النجوم» يا عقلاء؟
تلك النجوم التي تُضيء وتَهدي، وتبسط على الخلق رداء من الراحة والهدوء والطمائنينة..
أما رجال السينما.. فهم ناشرو الظلام ودعاة المجون والخلاعة، ومحاربو الطهر والعفاف، ومثيرو القلق والاضطراب في أعضاء المجتمع!
فكيف يصح أن يُدعَوا: «النجوم»؟!
معنى ذلك أن يسمَّى الليل نهارًا، والأسودُ أبيض، والشر خيرًا؟
ومعنى ذلك أن الممثلين والممثلات، والراقصين والراقصات، والممارسين والممارسات للمنكرات والسيئات، والداعين والداعيات إليها بكل وقاحة ومجانة، صاروا هم المثل العليا والنماذج السامية، الأحرى بالاقتداء والائتساء..، فلذا سُمُّوا بـ: «النجوم».
ولعل هذا الذي عبر عنه الشاعر الأردي بقوله:
خرد کا نام جنوں پڑگیا، جنوں کا خرد
جو چاھے آپ کا حسن کرشمہ ساز کرے (٢)
لماذا أمكن ذلك؟ لأن الساعة قريبة..
فلنستعد لما يمكن أن يكون أعجب وأغرب، وأدهى وأمر!
والله المستعان!
الهوامش:
(١) تكلم فيه بعض الحفاظ من جهة ضعف سنده، ولكن يستأنس لمعنى الحديث بحديث آخر، كما قال البيهقي: إن حديث الإمام مسلم يؤدي بعض معناه، يعني قوله -صلى الله عليه وسلم-: «النجوم أمنة للسماء» الحديث، وافقه الحافظ ابن حجر، فقال: صدق البيهقي.. هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم.
(٢) أي سُمي العقل جنونًا، والجنون عقلًا..
فليصنع ما يشاء جمالك الساحر المعجز!
(الثلاثاء: ٢ من محرم ١٤٤٦ھ – ٩ يوليو ٢٠٢٤م).