أيها الإنسان. في بلادٍ عُرفت يومًا بكرمها ودفء قلوبها أصبح الدم أرخص من الكلام. في أرضٍ وُلد فيها الأنبياء يُقتل فيها الأبرياء كل يوم بلا ذنب، بلا محاكمة، بلا صوت يعترض. أيها العراقي، من أي عرق كنت، من أي دين، من أي مذهب.
متى انكسرت إنسانيتنا إلى هذا الحد؟
متى تساوى القاتل والمقتول في صمت الشارع؟
أين اختبأ ضميرك وأنت تمرُّ بجثةٍ تمد يدها للسماء ولا أحد يُنقذها؟
طفلٌ يسأل: أين أبي؟
ولا أحد يجيبه لأن الجواب يقتل الطفولة ذاتها. أمٌّ تجلس على عتبة بيتها تنظر في الفراغ لأن من تحبّه صار ترابًا بلا وداع. بلا حق. صرنا نعد القتلى كما نعد الأيام. وتحولت الرصاصات من استثناء إلى لغة. وسقط الخوف من الله ثم من الحساب ومن أنفسنا.
لماذا صار القتل سهلًا؟
لم يعد فعلًا طارئًا بل مظهرًا من مظاهر الحياة اليومية. وهنا لا بد أن نطرح السؤال الأعمق : هل القاتل هو من ضغط الزناد أم مجتمع بأكمله غضّ الطرف عن ناره حتى انفجرت؟
القتل اليوم نتيجة لتراكمات مأساوية منها:
1- تفكك القانون وغربة العدالة.. عندما تفقد الدولة هيبتها يصبح القانون سلاح الأقوى لا ملجأ الضعيف.
2 – السلاح المنفلت.. الحديد عندما يُحمل دون عقل يتحول إلى قدر. رصاصة واحدة كفيلة بإنهاء جيلٍ من الحكايات.
3 – الثأر العشائري والموروثات القاسية.. في مجتمعاتنا، القتل أحيانًا لا يُرفض بل يُصفق له كأنه نصر وهو في حقيقته هزيمة متكررة للجميع.
4 – الفقر واليأس الوجودي.. حين يشعر الإنسان أن حياته بلا قيمة يصبح الموت له أو لغيره مجرد تفصيل عابر.
5 – التحريض الطائفي والسياسي.. حين تُستغل العقائد لإشعال النار يصبح الدين ستارًا يُغطي العنف لا يُطهّره.
6 – غياب الوعي والوجدان.. جيل كامل تربّى على مشاهد الدم قبل الحروف فكيف نطالبه الآن أن يختار الحياة؟
ماذا يحدث في عقل من يقتل؟
وراء كل قاتل روح تعرضت للكسر.. قد لا يُولد مجرمًا لكنه يُصنع، يُشكَّل، يُهيَّأ بصمت المجتمع. بإهمال الدولة وقسوة الواقع.
علم النفس يخبرنا أن القاتل في أغلب الحالات:
يعيش اضطرابًا في شخصيته لانه يفتقر إلى الشعور بالذنب ويرى نفسه فوق القانون. ويعاني من صدمات مزمنة نشأ في بيئات عنف أو فقر أو إذلال حتى أصبح الموت لغته الوحيدة. يشعر باللاجدوى، فلا يرى فرقًا بين الحياة والموت، بين العطاء والانتقام. ويفتقر لأدوات ضبط الانفعال فلا يعرف سوى الانفجار لأنه لم يتعلم التحمّل.
كيف نوقف هذا النزيف؟
لا يكفي أن نُدين العنف، بل يجب أن نقتلع جذوره من التربة التي غذّته من خلال:
1 – بناء دولة تحمي الجميع.. لا سلام بلا قانون ولا عدالة في ظل السلاح العشوائي.
2 – نشر الوعي النفسي والتربوي.. نعلم أطفالنا أن الرجولة ليست في الضرب، بل في ضبط النفس. وأن الاختلاف لا يستوجب الإقصاء.
3 – تفعيل الخطاب الديني والاجتماعي.. نحتاج إلى منابر تُعلّم الرحمة لا التحريض وتزرع المحبة لا الأحقاد.
4 – برامج وقائية وعلاجية.. جلسات نفسية في المدارس، دعم للمراهقين، تدخلات في البيئات الهشة. المجرمون لا يولدون، بل يصنعهم الإهمال.
5 – إعادة الاعتبار للإنسان.. في مناهجنا، في إعلامنا، في خطاباتنا. يجب أن تكون الحياة ذات معنى والموت خسارة لا رقمًا في نشرة الأخبار.
ألسنا جميعًا أبناء القبور المفتوحة نفسها؟
ألا نتقاسم الوجع والوجهة والوجدان؟
فكيف نصبح أعداء ونسمح للدم أن يُفرق بين من تجمعهم الحفرة ذاتها في النهاية؟
لا مذهب يمنع رصاصة ولا قومية تُعيد ميتًا ولا لافتة تُجمل جريمة. أيها الناس. لقد تعب الموت من زياراته المتكررة لنا فهل تعبنا منه؟
هل نحتاج قبرًا جديدًا كل صباح لنفهم أن الحياة لا تُمنح مرتين؟
ان القتل ليس قوة. إنه عجزٌ عن الفهم، ضعفٌ في الروح، فراغٌ في القلب. الصمت ليس حيادًا بل خيانة ولسنا بحاجة إلى سلاحٍ جديد، بل إلى ضمير يُعيد ترتيب فوضانا الإنسانية. لسنا بحاجة إلى رايات أخرى، بل إلى قلبٍ يعترف بالآخر شريكًا لا عدوًا. لسنا بحاجة إلى المزيد من القبور، بل إلى وطنٍ نربي فيه أبناءنا على الحياة، لا على الثأر. كفى. كفى موتًا. كفى صمتًا. كفى انتظارًا لمذبحة جديدة كي نستيقظ. ورحم الله من مات في زحمة الجهل وظُلِم لأنه وُلِد في وطنٍ لم يعرف بعد معنى الإنسان.
لا شيء يعوّض مَن قُتل ظلمًا. لأن العدالة لا تُحيي الموتى ولا الاعتذار يدفئ قبورهم والذاكرة ستحملهم كألم دائم لا يُشفى.