في زمنٍ اختلطت فيه القيم، وغدت فيه “الحرية” ذريعة للتفريط في المبادئ، ولتبرير الانفلات الأخلاقي، أصبح صون العرض معركة يومية يخوضها من بقي على العهد، ويتسلّح فيها بالشجاعة والثبات. الغيرة الحقيقية لم تكن يومًا امتلاكًا أو تسلّطًا، بل هي أمانة إلهية، وضعها الله في قلب الرجل؛ ليتحمّل بها مسؤولية الحفاظ على كرامة من يعول، ولتكون تذكيرًا دائمًا بأن العرض هو أغلى ما يملك الإنسان، فإن ضيّعه فقد ضيّع نخوته، وإن تهاون فيه فقد تخلى عن جزء من إنسانيته.
وقد أدركت هذا المعنى يقينًا، لا قولًا، حين كنت برفقة والدتي — أطال الله عمرها في طاعته — وهي امرأة فاضلة منتقبة قاربت على بلوغ الستين من عمرها. اعتدت اصطحابها عبر سيارات الأجرة الخاصة، تجنبًا لزحام الطرقات وضيق المواصلات العامة، حرصًا على راحتها وكرامتها. ولكن لظرفٍ طارئ، اضطُررنا إلى ركوب مترو الأنفاق في أحد الأيام.
وفي خضم الزحام، وجدت نفسي دون تفكير أُحاوطها من الجانبين، كأنني حارس شخصي، لا رغبة في الظهور، بل غيرةً دفعتني لأن أكون درعًا يحول بينها وبين أي نظرة أو احتكاك عارض. وعندما دخلنا القطار، جلّستُها على أحد المقاعد، وبقيت واقفًا أمامها، حاجزًا بينها وبين الناس، حتى لا تطالها الأعين ولا يضايقها أحد.
وفي لحظة تأمل، نظرتُ من حولي، فرأيت مشاهد مؤلمة: فتيات خرجن إلى الشارع بلا ستر، بألبسة لا تليق، وعيون تتجول بجرأة، ورجال — بل أشباه رجال — يسيرون بجوارهن بلا حياء ولا اعتراض. حينها سألت نفسي: أين الغيرة؟ أين الرجولة؟ كيف لرجل أن يرى من يحبها مكشوفة، ولا يتحرك فيه شيء؟ كيف يغار غريب، ولا تتحرك نخوة قريب؟
إن الرجولة لا تُقاس بالصوت العالي، ولا بالمظاهر الخادعة، بل بالفعل النبيل، بالموقف الشريف، بالنظرة التي تحمي، لا التي تفضح. الغيرة ليست عيبًا ولا ضعفًا، بل دليل أصالة وفطرة نقية لم تتلوث. ومن لا يغار على أهله، فليس له في قاموس الرجولة نصيب.
فلنكن رجالًا بحق، لا بالادعاء. نحمي نساءنا بالفكر والسلوك والدين، نجعل من غيرتنا ضوءًا لا نارًا، نورًا يستر لا وهجًا يفضح، ولنرفع شعار الرجولة كما أرادها الله: حماية، ستر، ومروءة.