الجمعة يوليو 5, 2024
مقالات

مختار محمود البرعى يكتب: بائع غَزل البنات.. حكاية مُلهمة من واقع بائس

على ذكر واقعة بائع غزل البنات «أبو رحمة» الذي ألقى بضاعته في الشارع يأسًا، بعدما ضاقت عليه الأرض بما رحبت وضاقت عليه نفسه.. قبل نحو عشرة أيام حيث كنت على سفر في محافظة الغربية، ذهبت لصلاة المغرب بمسجد يبدو حديث النشأة، لم يخضع بعد لتأميم الأوقاف، وجرت واقعة مشابهة تقريبًا غير أن الشيطان أنسانيها، ولم أتذكرها إلا أمس.

كانت صلاة المغرب قد قُضيت على خير، وأصبح المسجد خاويًا على عروشه إلا من بضعة من كبار السن الذين عقدوا مجلسًا قرآنيًا مصغرًا. أديتُ صلاة المغرب منفردًا. وقبل أن أهمَّ بمغادرة المسجد آثرتُ أن أنتظر العشاء؛ فقد كنتُ مرهقًا لأسباب عديدة.

اندفع شاب عشريني يحمل كمية كبيرة من غزل البنات إلى داخل المسجد، يبدو على وجهه التعب والإرهاق. ترك بضاعته جانبًا، وذهب ليتوضأ وعاد سريعًا وعيناه ترتكزان عليها؛ خشية أن يختلسها عابر سبيل!!

صلى هادئًا مطمئنًا، وتوليتُ -دون أخبره- حراسة تجارته! قرأ بصوت خفيض خواتيم سورة «البقرة» في الركعة الأولى وأواخر «الغاشية» في الركعة الثانية. كانت قراءته هادئة خاشعة.

 يتبقى على أذان العشاء نحو 20 دقيقة أو أقل قليلاً. لم يغادر بائع الحلوى المسجد، بل التقط مصحفًا، وانضم للجمع المبارك مُسلمًا، وأدرك منذ الوهلة الأولى من أي موضع يقرؤون. كانوا يقرؤون من سورة «التوبة».

عندما جاء عليه الدور استعاذ وبسمل وانطلق دون النظر في المصحف وقرأ من قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} إلى آخر السورة، وسط دهشة الجمع الكريم.

بدا بائع غزل البنات قارئًا متقنًا، فضلاً عن صوته الطيب الجميل الذي تطرب له النفوس، وترتيله المتدفق الذي يهيم به الوجدان.

عندما اختتم الشاب تلاوته المباركة قرَّبه كبيرُهم إليه، وكان صافي المُحيَّا وصافحه وامتدح تلاوته، وهكذا فعل الآخرون.

عندما حان وقت العشاء طلبوا منه أن يرفع الأذان، فكان نعم المؤذن، وعندما أقام الصلاة دفعوا به إمامًا على حين غفلة، فأمتع المصلين بأداء احترافي قلَّ نظيره؛ حيث قرأ سورة “ق” في الركعتين الأوليين.

عندما أنهى بائع غزل البنات مهمته الربانية أبقاه «الرجل الكبير»، وبدا أنه رئيس مجلس إدارة المسجد، من جديد، وطلب منه الانتظار قليلاً، ثم ابتاع منه بضاعته المركونة بمبلغ غير معلوم دسَّه في جيبه رغمًا عنه، واستفسر منه عن بعض المعلومات الخاصة به، وكان من بينها أنه أنهى دراسته الجامعية، كما أطلعه على هويته من واقع بطاقته الشخصية، وأخبره أنه يحفظ القرآن الكريم كاملاً، ومعه إجازة، فأنبأه -وسط حفاوة من تبقى من المصلين- أنه سوف يصبح مقيمًا للشعائر بالمسجد، ووعده بفرصة عمل مناسبة عما قريب جدًا.. كم كنت ممتنًا لهذا اللحظة القدرية الجميلة.

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

قناة جريدة الأمة على يوتيوب