مختار محمود يكتب: روحانيات الشيخ محمد رفعت

عندما يعزفُ المأسورُ حبيسُ الإعاقة على أوتار الروح الوثابة العصيّة على الاندحار، فإن ألحانه تنسال دُررًا من سحر الإيقاع، وتنتشي لها النفوس الظمأى. ومن لوعة الحرمان وتباريح العمى، يتعاظم الإصرار على المواجهة، ومن حلكة الظلمات، يُشرق مهرجان الإبداع والتألق والتوهج، وصولاً إلى الخلود.

لعل القارئ الشيخ محمد رفعت 1882-1950 هو واحدٌ من هؤلاء الذين حُرموا نعمة البصر، ولكنهم لم يُحرموا أبدًا نعمة البصيرة. الشيخ الجليل صاحب الاسم المُركب “محمد رفعت” هو أبرز معالم شهر رمضان الكريم في مصر: أذانًا وقرآنًا. ثلاثة أرباع قرن من الزمان انقضت على رحيل القارئ الإعجازي، ولكن لم تزده السنوات المتعاقبات إلا خلودًا. الخلود لا يرافق سوى سير الصادقين والمخلصين. لا يغيب صوت الشيخ محمد رفعت يومًا واحدًا عن الإذاعة المصرية والفضائيات القرآنية قارئًا أو مؤذنًا.

ولد الشيخ محمد رفعت بمنطقة الدرب الأحمر بالقاهرة، يوم الاثنين 9 مايو 1882. خرج إلى الدنيا مُبصرًا، ولكنه سرعان ما فقد بصره وهو ابن عامين، فوهبه والده الضابط بالجيش المصري محمود بك رفعت لخدمة القرآن الكريم. التحق الكفيف الصغير بكتّاب الشيخ فاضل بـ “درب الجماميز” بالقاهرة، فأتمَّ حفظ القرآن الكريم وتجويده قبل العاشرة.

أدركت الوفاة والد محمد رفعت مبكرًا؛ ليجد الفتى الضرير نفسه عائلاً لأسرته، فلجأ الى القرآن الكريم يعتصم به، ولا يرتزق منه، وأصبح يرتل مُحكم التنزيل في المسجد المواجه لمكتب فاضل باشا، حتى عيُن وهو ابن 15 عامًا قارئا للسورة يوم الجمعة، فذاع صيته.

كانت ساحة المسجد المذكور وطرقاته تضيق بالمصلين الذين جاءوا من قريب وبعيد؛ ليستمعوا الى الصوت الملائكي العذب المُتفرد.

ظل القارئ الشيخ محمد رفعت يقرأ القرآن الكريم، ويرتل في هذا المسجد نحوًا من ثلاثة عقود متصلة.

لم يكتفِ القارئ النابه بموهبته الصوتية الربانية، ومشاعره المرهفة في قراءة القرآن الكريم، بل عمّق هذا بدراسة علم القراءات، وبعض التفاسير، واهتم بشراء الكتب، ودراسة الموسيقى، فدرس أعمال “بيتهوفن”، و”موزارت” و”فاجنر”، وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات العالمي في مكتبته.

رغم الظروف الصعبة التي ألمَّت به مبكرًا إلا إن الشيخ محمد رفعت تميز بعفة النفس والزهد في متاع الدنيا، وكأنه جاء من رحم الغيب لخدمة كتاب الله. لم يكن الشيخ الجليل طامعًا في المال مثل كثيرين غيره، بل ظل ذا مبدأ ونفس كريمة؛ رافعًا شعار: “إن سادن القرآن لا يمكن أبدًا أن يُهان أو يُدان»، واتخذه ضابطًا لمسار حياته، حتى عندما اشتد به المرض في أيامه الأخيرة.

عندما اُفتتحت الإذاعة المصرية يوم الخميس 31 مايو 1934، كان الشيخ النابه أول من افتتح إرسالها بصوته العذب بأوائل سورة الفتح: “إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”، بعدما استفتى قبلها الأزهر الشريف عمَّا اذا كانت إذاعة التلاوات القرآنية حلالاً أم حرامًا، فأفتوه بأنها حلال. كان – رحمة الله عليه – يخشى أن يستمع الناس إلى القرآن الكريم وهم في الحانات والملاهي!

جاء صوت الشيخ محمد رفعت من الإذاعة المصرية نديًّا خاشعًا، وكأنه يروي قلوبًا وآذانًا وأرواحًا عطشى الى سماع آيات القرآن المجيد، وكأنها تسمعها لأول مرة. لمع اسم القارئ النبيل وعشقت الملايين صوته، وتعلقت به.

تنافست إذاعات العالم الكبرى يومئذ مثل: “برلين” و”لندن” و”باريس” أثناء الحرب العالمية الثانية، لتستهل افتتاحها وبرامجها العربية بصوت الشيخ محمد رفعت، لتجذب اليها الكثير من المستمعين، إلا أنه لم يكن يعبأ بالمال والثراء، وأبى أن يتكسب بالقرآن الكريم.

في العام 1935.. تلقى الشيخ محمد رفعت عرضًا مغريًا بالسفر الى الهند لقراءة القرآن الكريم مقابل 15 ألف جنيه مصري، فاعتذر، فضاعفوا المبلغ الى 45 ألفًا، فغضب مرددًا: “لا أبحث عن المال أبدًا؛ فإن الدنيا كلها عرض زائل”.

مع تمتع القارئ الخالد بحس مُرهف ومشاعر فياضة، فإنه كان إنسانًا في أعماقه، يهتز وجدانه اهتزازًا عنيفًا في المواقف الإنسانية، وتفيض روحه بمشاعر جياشة، لا تجد تعبيرًا عن نفسها إلا في دموع خاشعات، تغسل ما بالنفس من أحزان.

عُرف عن الشيخ محمد رفعت العطف والرحمة والشفقة، فكان يجالس الفقراء والبسطاء، وبلغت رحمته أنه كان لا ينام حتى يطمئن على حصانه، ويُطعمه ويسقيه، ويوصي أولاده برعايته. هذا إحساس خرج من قلب ممتلئ حبًا وحنانًا وشفافية وصفاءً، وهي صفات ظلت تلازمه وترافقه، ولم يعكرها يومًا إحساسه بإعاقة البصر.

من أجل ذلك كله… جاءت نغمات القارئ وذبذبات صوته منسجمة مع نغمات الكون من حوله؛ فخلقتا سويًا في كل تلاوة من تلاواته ملحمة من الجمال الرباني العظيم والروحانيات المشرقة.

كان منزل الشيخ محمد رفعت منتدىً ثقافيًا وأدبيًا وفنيًا؛ حيث ربطته صداقة قوية بالموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، الذي كان يحرص على قضاء بعض سهراته برفقته. كانت هذه الجلسات تضم أعلام الموسيقى والفن. كان الشيخ يغني لهم بصوته الرخيم قصائد عدة، منها: “أراك عصيّ الدمع”.

مع بداية الأربعينات من القرن الماضي، لاحقت الأمراض الشيخ الجليل، فأصيب بضغط الدم والتهاب رئوي حاد، وبـ«الزغطة»، التي منعته من التلاوة ومن الكلام. لزم الشيخ محمد رفعت داره، حتى توفاه الله في يوم مولده الاثنين التاسع من مايو 1950 عن عمر يناهز 68 عامًا.

جاء رحيل القارئ العظيم صادمًا ومفجعًا للعامة والنخبة، ورثاه بعضهم بكلمات لاتزال خالدة حتى الآن. الأديب محمد السيد المويلحي كتب عنه في مجلة “الرسالة”: “سيد قراء هذا الزمان، موسيقيّ بفطرته وطبيعته، كان يأسرنا ويسحرنا بصوته من دون أن يحتاج الى أوركسترا”.

أمَّا الكاتب الكبير الراحل أنيس منصور فرثاه قائلاً: “لايزال المرحوم الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسر جمال وجلال صوته أنه كان فريدًا في معدنه، وأن هذا الصوت كان قادرًا على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أي صوت آخر”.

أمَّا شيخ الاذاعيين الراحل علي خليل فقال عن القارئ الشريف: “كان هادئ النفس، تشعر وأنت جالس معه بأنه مستمتع بحياته، وكأنه في جنة الخلد. كان كيانًا ملائكيًا، ترى في وجهه الصفاء والنقاء والطمأنينة والايمان الخالص للخالق، وكأنه ليس من أهل الأرض”.

أمَّا الإذاعة المصرية.. فقد أعلنت نبأ وفاته هكذا: “أيها المسلمون.. فقدنا اليوم علمًا من أعلام الإسلام”، فيما نعاه مفتي سوريا عبر أثير إذاعة بلاده بقوله: “مات المُقرئ الذي وهب صوته للإسلام”.

مختار محمود البرعي

كاتب صحفي وباحث

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights