مختار محمود يكتب: «زقزوق».. ذكرى فيلسوف الأزهر والأوقاف

تُعرف الأشياء بأضدادها، ولا يعرف أقدارَ الرجال إلا رجالٌ أمثالهم. أحسن وزير الأوقاف الحالي صُنعًا بالاحتفال بذكرى وفاة الوزير الأسبق والمفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمود حمدي زقزوق الذي غيبه الموت بعد مسيرة عطاء حافلة منذ خمس سنوات.
الحساب الخاص لوزارة الأوقاف على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك» نشر تزامنًا مع ذكرى رحيل «زقزوق» تصريحات منسوبة للدكتور أسامة الأزهري شدد خلالها على أن «ذكرى رحيل الأستاذ الدكتور محمود حمدي زقزوق، وزير الأوقاف الأسبق، ستظل خالدة في تاريخ الفكر الإسلامي؛ لما قدمه من جهود علمية ودعوية، تركت بصمة واضحة في مسيرة التنوير والتجديد».
«الأزهري».. أكد أن الدكتور زقزوق (كان له دور بارز في تحديث الفكر الديني، وتعزيز الحوار بين الحضارات، وكتب العديد من المؤلفات التي تناولت قضايا معاصرة، مُسلطًا الضوء على ضرورة التجديد والاجتهاد بما يتناسب مع تحديات العصر، مع الحفاظ على الثوابت الشرعية الراسخة، مستطردًا: ما قدمه الدكتور زقزوق من جهود علمية وفكرية سيظل مرجعًا مهمًّا للأجيال القادمة).
ما قاله «الأزهري» يتقاطع مع نعي شيخ الأزهر الشريف الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب لـ«زقزوق» يوم رحيله في العام 2020، حيث قال يومئذ: (فقدَ الأزهرُ اليومَ وجامعاتُ العالم كلها عالمًا ومفكرًا إسلاميًّا كبيرًا أثرى المكتبة العِلمية بمؤلفاته القيِّمة التي طالما تغذتْ عليها عقولُ الباحثين وأقلامُهم في الشرق والغرب، وقد تركَ مسيرة عِلمية وعملية سيذكرُها التاريخُ بكلِّ فخر، بدأها في معهد أزهري ثم جامعة الأزهر وجامعات أوروبا، وختمها عضوًا في هيئة كبار العلماء ومُفكرًا ملأ الدنيا بفكره وعلمه).
يُكملُ «الطيب» رثاءَه للمفكر الإسلامي الكبير: (للهِ وللتاريخ أشهدُ أنك كنتَ الإنسانَ المُترفع عن كل الصغائر، والعالمَ الكبيرَ الشديدَ التواضع، وجميعُ المناصب العلمية والرسمية التي تقلدتها هي التي سعتْ إليك، وأُشهد الله أنك لم تسعَ إليها، وكنتَ مدرسةً في العلم والخلق الرفيع والإنسانية العليا يندر تكرارُها في هذا الزمان.. فوداعًا أيها الأستاذ الكبير محمود حمدي زقزوق، المُفكرُ الزاهدُ، والفيلسوفُ الفقيهُ، والعالمُ العابدُ).
كما دخلت دار الإفتاء يومئذ أيضًا على خط النعي؛ حيث رثت العالِم الجليل الراحل ببيان رصين جاء فيه: (إن التاريخ سوفَ يذكرُ بحروفٍ من نور الجهودَ التي قام بها العالمُ الكبيرُ الدكتور محمود حمدي زقزوق، وسعيَه لنشر المفاهيم الدينية الصحيحة، وجهودَه العلمية وغزارة الإنتاج الفكري والقانوني، والتي ستظلُّ علامة مُضيئة في تاريخ الأمة الإسلامية والعربية والعالم أجمعَ، ولن ينسى له أنه أفنى عمرَه في خدمة الإسلام والمسلمين وبذل جهدًا واضحًا في التجديد في الفكر والخطاب الديني ونشر المفاهيم الدينية الصحيحة والرد على الشبهات التي تثار حول الإسلام والمسلمين).
نعم.. كان «زقزوق»، على قدره العلمي الرفيع ومكانته المتفردة، مفكرًا زاهدًا، فيلسوفًا فقيهًا، عالمًا عابدًا. وطوال مسيرته الممتدة.. قدَّمَ صورة مثالية لعالم الدين الحقيقي الذي لا يورد نفسَه موارد الزلل، ولا يورطها مواطن الخلل. كان «زقزوق» نموذجًا يُحتذى به عالِمًا وأستاذًا ووزيرًا. كان رمزًا أزهريًا يُضربُ به المثلُ عِلمًا وأدبًا وخلقًا.
تركَ أستاذ الفلسفة الإسلامية الراحل، الذي عاش بين عامي 1933-2020، بصماتٍ قوية في كل المجالات التي عمل بها، وكان موضع احترام وتقدير وإجلال وإكبار من الدوائر المختلفة مصريًا وعربيًا ودوليًا، خاصة في ألمانيا والنمسا وغيرها من الدول التي عرفتْ الإسلامَ الوَسطي، والصورة الصحيحة للإسلام، وأهمية الحوار والتعاون بين أهل الأديان والثقافات المتعددة من خلال أحاديثه وكتاباته القيمة.
ولأنَّ الرجلَ كان مؤمنًا بأنه صاحبُ رسالة، فإنه كان شديد الإخلاص لها، فلم يكن يُرائي الناسَ، أو يسعى إلى إعلام القاصي والداني بحركاته وسكناته ونومه ويقظته وحلِّه وترحاله، بل ظلَّ يخدمُ الإسلامُ فقيهًا وعالمًا وفيلسوفًا ومتنقلًا من قُطر إلى قُطر، ومن قارة إلى قارة، في صمتِ وسكونِ وهدوءِ، لكنه صمتُ العلماء الثقات، حتى أنك تحسبُ أنَّ قولَ اللهِ تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} نزل فيه وفيمن يحذون حذوه، وهم يومئذ قليلٌ!
واللافت في الأمر.. أن وزارة الأوقاف لم تكلف نفسها يوم رحيل أهم وزرائها أن تنعيه أو ترثيه، وكأن الرجل لم يكن شيئًا مذكورًا. حرص الوزير المعزول ومستخدموه على تجاهل وفاة «زقزوق»، أو الاحتفال بذكراه لاحقًا في مواقف مثيرة للجدل والشفقة في آن!
تفسير هذه الحالة «الكريهة» نجدها في كلمات تقطر ألمًا وحزنًا متدفقًا كتبها صاحب الذكرى نفسه في مذكراته؛ حيث نسب إلى الوزير السابق «المعزول» السطو على مؤلفاته العلمية، ثم افتعال خصومة معه؛ من أجل التعمية على واحدة من أغرب عمليات السطو الفكري والعلمي في تاريخ وزارة الأوقاف!!
رحِمَ اللهُ الدكتور محمود حمدي زقزوق، وأنزله مُنزلًا كريمًا، وجزاه خيرَ الجزاء. أمَّا الذين شيدوا تاريخهم بالكراهية والحقد والغيرة والسطو على منجزات الآخرين، فغياهب النسيان أولى بهم: حياة وموتًا!