مختار محمود يكتب: عمر الخيِّام ورباعياته والنقشبندي!
لم يكن عمر الخيَّام –الذي تحلُّ ذكرى وفاته في الرابع من ديسمبر- مجرد شاعر ينظم القوافي ويقرض الشعر، بل كان عالمًا فذًا في علوم كثيرة، وقلَّ شبيهُه في زمانه. اسمه: غيَّاث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم.
اشتهِر بـ«عمر الخيَّام»؛ نسبة لعمل والده في تجارة الخِيام. أبصر «عمَر» النور في مايو 1048 ميلاديًا في مدينة نيسابور الفارسية،
وعاش معظم حياته بينها وبين سمرقند، ومات -على الأرجح- في الرابع من ديسمبر العام 1131 ميلاديًا عن عمْر ناهز 83 عامًا.
«الخيَّام» عالم رياضيات وفَلك ولغة وفقه وتاريخ
كان «الخيَّام» عالمًا في الرياضيات والفَلك واللغة والفقه والتاريخ. لم يكن الشعر يمثل الأولوية الأهم في حياة «عمَر»،
بل كان يأتي في مرحلة متأخرة نسبيًا، ورغم ذلك تحولت رباعياته «العفوية» إلى أيقونة تمددت أصداؤها شرقًا وغربًا،
ولا يزال الناس ينقبون في معانيها ويستخرجون من بطونها وثناياها عظيم المعاني والعِبرات والعِظات، وهذه مفارقة عجيبة، لم يحظَ بها مَن سخَّروا حياتهم كلها للشعر.
إذا نحيَّنا اكتشافات «الخيَّام» ومُنجزاته العلمية التي أدرجته ضمن مصاف علماء الإسلام الأوائل والكبار، وألقينا الضوء على الجانب الفلسفي والإبداعي في رباعياته،
فسوف نلمس فيها جوانبَ مهمة وثرية؛ ما أغرى المترجمين من جميع أنحاء العالم بالإقبال عليها، وترجمتها إلى لغاتهم. يُقدَّر عدد مَن ترجموا الرباعيات إلى لغاتهم بمائة شاعر أو يزيدون!
لماذا سمِّيت «رباعيات الخيَّام» بهذا الاسم
سميت «رباعيات الخيَّام» بهذا الاسم؛ لأنها عبارة عن مقطوعة شعرية بالفارسية، مكونة من أربعة أبيات،
كان يتغنَّى «عمَر» بها في أوقات فراغه، أو أثناء انشغاله في علومه وعمله بها، نقلها عنه أصدقاؤه وكلُّ مَن سمعها في زمانه؛
ما جعل نسبة الزيادة والنقصان فيها محتملة ومرجحة، إن لم تكن مؤكدة، كما سنرى لاحقًا.
الباحثون والدارسون يروَن أن الرباعياتِ المنسوبة لـ«الخيَّام»؛ ليست جميعها من نظمه وإنتاجه؛ لا سيما الجزء الخاص باللهو الدنيوي بمفهومه الواسع واللاذع؛
ودليلهم في ذلك وعليه هو أن الرجل كان -في الأصل- عالِمًا جادًا في فنون وعلوم صعبة، وهو ما لا يتماهى مع كثير من الرباعيات المنسوبة إليه!
القيمة الفنية لـ«رباعيات الخيَّام» -كما أجمع الشعراء والنقاد- ترتكن إلى الرؤية الشمولية للفعل الإنساني،
والحفر في الطبقات العميقة من الذات الإنسانية خاصة المتدنية، والقدرة التعبيرية النافذة المؤثرة،
لنصبح أمام نصٍّ شعري لا وعظي، له قيمتُه في تاريخ الإبداع الإنساني، وهنا مكمنُ الحياة والخلود والتجدُّد في الرباعيات، وفي هذا السياق..
أثبتوا أن 82 رباعية -على الأقل- منسوبة للشاعر الفارسي لم ينظمها، ولا يصح له أن ينظمها، ويبقى هذا الرقم أيضًا قابلاً للزيادة!
الاعتناء برباعيات الخيَّام
من الكتاب الذين اعتنوَا برباعيات الخيَّام وترجموها إلى اللغة الإنجليزية الكاتب الأمريكي إدوارد فيتزجيرالد الذي ألّف كتابًا معنونًا بـ«الخيَّام»،
والأرجح أنه لم يلتزم بالنص الأصلي –كما لن يلتزم به أحمد رامي لاحقًا في النسخة المصرية-
وأضفى عليها جانبًا من الثقافة الغربية المنفتحة، فيما فعل الشاعر المصري النقيض،
ولكلٍّ أسبابُه ودوافعُه. بدا الكاتب الأمريكي مفتونًا بـ«الخيَّام»،
حتى إنه قال: «كلُّ رباعية تجسِّد وحدَها قصيدة كاملة؛ نظرًا لبلاغتها وثرائها اللغوي والمعرفي».
تطرق الكاتب -بطبيعة الحال- إلى بعض التساؤلات التي كان يطرحها «الخيَّام» حول لوغاريتمات الحياة وألغاز الموت وعلاقة الإنسان بالله،
ولكنه لم يقدم إجابة شافية تكشف هذه الحالة من الاضطراب النفسي إن جازت التسمية،
وربما جاءت هذه التساؤلات في مرحلة مبكرة من حياة «الخيَّام»، وهي كانت حياة لاهية بالفعل لأسباب عديدة،
من بينها: النشأة المرفهة، كما كان لا يزال متأثرًا بمعلميه وأساتذته، وكان بعضهم ذرادشتيًا!
وما يسهم في تبديد الصورة السلبية عن عقيدة «الخيَّام» أشعارُه التي تعكس يقينَه وإيمانه بالله وخضوعه له،
وربما يكون قد صاغها في فترة عزلته الأخيرة التي انقطع فيها عن الناس؛ وهو ما يبدد تلقائيًا شبهة الإلحاد التي حاول البعض إلصاقها به!
الطبعة الأولى لترجمة «رباعيات الخيَّام»
في العام 1924 صدرت الطبعة الأولى لترجمة «رباعيات الخيَّام» بتوقيع الشاعر أحمد رامي الذي درس اللغة الفارسية في جامعة السوربون من أجلها.
شغلت النسخة المصرية من رباعيات الخيَّام الناس، حتى أقبلت «أم كلثوم» على غناء بعضها، ولكن بشروطها الخاصة،
وأبرزها: تنقيتها من أية ألفاظ تثير الجدل أو الغضب، واستبدالها بمفردات تناسب الهوية الإسلامية.
في العام 1950، وبألحان رياض السنباطي..غنت «كوكب الشرق» من رباعيات الخيَّام:
سمعتُ صوتًا هاتفًا في السَّحَر/ نادى من الغيب غفاة البشر/ هبوا املأوا كأس المنى/ قبل أن تملأ كأسَ العمر كفُّ الَقَدر.
وكما أضفى المترجمون الغربيون بعضًا من المعاني والألغاز التي تناسب ثقافة بلادهم وأزمانهم على الرباعيات،
فإن أحمد رامي ربما يكون قد فعل العكس تمامًا،
حيث حرص -كما ذكرتُ آنفًا- على استبعاد بعض المرادفات والألفاظ التي تتصادم مع الحياء العام عند المصريين وأعرافهم ومعتقداتهم؛
حتى لا يصطدم بالرقابة، وبـ«أم كلثوم» نفسها التي كانت تفرض رقابة ذاتية على نفسها.
كيف رامي ترجم رباعيات الخيَّام؟
في مقابلة متلفزة مع المذيع الراحل طارق حبيب.. شرح الشاعر الكبير أحمد رامي -رحمهما الله- كيف ترجم رباعيات الخيَّام، موضحًا أنه استبدل كلماتٍ وألفاظًا لدى ترجمته النص الأصلي من الفارسية؛ لعدم ملاءمتها.
وبحسب «رامي».. فإنه استبدل كلمة «الحان»، في جملة «نادى من الغيب غفاة البشر» والتي كانت في الأصل: «نادى من ألحان غفاة البشر»، كما غيَّر كلمة «الطلا»، ومعناها: «الخمر»، في قوله: «هبوا املأوا كأس الطلا»، إلى «هبوا املأوا كأس المنى».
يذكر هنا أن إجمالي ما استطاعت «أم كلثوم» غناءه من الرباعيات لم يتجاوز خمس عشرة رباعية فقط من أصل مائة وسبعين رباعية،
ولكن ما لا يمكن إنكارُه هو أن غناء «أم كلثوم» للرباعيات كان سببًا رئيسًا في رواج كتاب «رامي» وطبعه مراتٍ عديدة. وفي وقت لاحق..
سوف يشدو المبتهل الشيخ سيد النقشبندي أيضًا ببعض «رباعيات الخيَّام» أثناء جلسة خاصة في سوريا،
يمكن الرجوع إلى التسجيل الصوتي عبر موقع الفيديوهات القصيرة «يوتيوب».
رباعيات الخيَّام عمل شعري فذ
اقتنع «رامي» -كما اقتنع سابقوه من الشعراء- بأن رباعيات الخيَّام عمل شعري فذ،
تجتمع فيه روح الشاعرية بروح الحكمة وروح الانفلات، كما تجتمع فيه حياة العاصي بحياة التائب، وروح الالتزام بروح التحرر.
كما أدرك «رامي» أن الشاعر الفارسي في النهاية يميل إلى ما يجب الميل إليه، وهو جادَّة الطريق وحسن الظن بالله،
وتعنيف النفس أمام شهواتها، فرحمة الله العظيمة -التي وسعت كل شيء- هي الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه المؤمن والعاصي معًا.
وعلى هذا كانت خاتمة حياة عمر الخيَّام بكل تناقضاتها؛ فقد حكِي أن عمر الخيَّام كان يتأمل «الإلهيات» من كتاب «الشفاء» لمواطنه «ابن سينا»،
فلما وصل إلى فصل: «الواحد والكثير» وضع الكتاب،
وقام فصلَّى، ثم أوصى ولم يأكل ولم يشرب، فلما فرغ من صلاة العشاء سجد لله وقال في سجوده بصوت مسموع:
«اللهم إني عرفتُك على مبلغ إمكاني، فاغفر لي؛ فإن معرفتي إياك وسيلتي إليك»
ثم أسلم نَفَسَه الأخير، ودفن في قبر اختار موقعه قبيل وفاته داخل بستان، إلا إن شاه إيران أمر بنقل رفاته في العام 1963 إلى ضريح ضخم بناه في نيسابور،
ليكون مقصدًا سياحيًا، كما لا تزال رباعياته مقصدًا شعريًا ومعرفيًا متجددًا حتى الآن.