مقالات

مختار محمود يكتب: مشروع قومي لإنقاذ الصحافة الورقية

في هذا الصباح.. أمسكتُ النسخة الورقية من الصحيفةِ الحكوميةِ ذائعةِ الصيت، فاكتشفتُ أنها أصبحت 16 صفحة فقط، وكانت حتى وقت قريب ثلاثة أضعاف ذلك. بدا الأمرُ مُزعجًا لي؛ خاصة بعدَ مُطالعة صفحاتها في أقلَّ مِن دقيقة، وكاشفًا عن أزمةِ الصحافةِ الورقيةِ التي تتفاقمُ في مصرَ يومًا بعدَ يومٍ، وسط تواطؤ مريب واسع المدى!

 بعيدًا عن ارتفاع أسعار الورق وغيره من التحدياتِ الجِسام التي تواجهُ مهنة كانت عريقة ومُهمَّة ومُؤثرة، وبعضُها يتعلقُ بأبناء المهنة أنفسِهم.. لا يختلفُ اثنان على أنَّ أطرافًا وأجنحة نافذة ومتنفذة تنفذُ خُططًا ماكرة وخبيثة منذ سنوات لتشييع الصحافةِ الورقيةِ إلى مثواها الأخيرِ؛ لأهدافٍ لا تخفى على أحدٍ.

 الواقعُ والتاريخُ يقولانِ: بعض الأنظمة السياسية تكرهُ الصحافة كراهية التحريم، وتتوهَّمُ أنَّ غيابَ الصحافةِ المطبوعةِ –تحديدًا- يُضاعفُ من تمكينِها وفرَص بقائها. ربما كانت هذه الفرضية صائبة قبلَ سنواتٍ قليلةٍ، ولكن في ظلِّ الثورةِ التكنولوجيةِ المتدفقةِ، وتعدُّدِ الوسائط، يُصبحُ هذا التفكيرُ ساذجًا وتافهًا وساقطًا وسطحيًا، ويجبُ أنْ يُحاكمَ مَن يؤمنونَ به ويُحرِّضونَ عليه ويُقرونه ويُثبتونه بتُهمة «الغباء السياسي»!

 للراحل مصطفى أمين حِكمةٌ بليغة تقولُ: “الصحافة أنْ تقولَ للحاكم ما يريدُ الشعبُ، لا أن تقولَ للشعبِ ما يريدُه الحاكمُ”.

بعض الأنظمةُ العربية يُفضِّلُ بطبيعةِ الحالِ الصنفَ الثاني منْ الصحفِ ويقرِّبُه إليها زُلفى وتحافظُ عليه، أما الصنفُ الأولُ فتحلُّ عليه اللعناتُ بألوانِ الطيف، ويُصبح غير مرغوب في بقائه!

 الصحافةُ الورقية الحقيقية هي ذاكرة الأمة، وأقوى أدواتِ التثقيفِ والتعليمِ والوعي والإدراكِ والاستنارة، ولكنَّ بعضَ الأنظمة يفضلُ أن يكونَ الشعبُ أميَّاَ جاهلاَ لا وعىَ له ولا إدراك. شعوبُ الجهل والأميَّة لا تبني دولًا قوية ولا تشيد حضاراتٍ.

 شمسُ الصحافةِ المطبوعةِ في الدول العربية، بما فيها البتروليةُ، إلى أُفولٍ، والصحفيونَ ينتظمون في طوابير المُتعطلين عن العمل، بعضُهم لا يملكُ قوتَ يومِه، إنَّ هذا –واللهِ- لشيء عُجاب!

الدفعُ بأن الثورة التكنولوجية وراء الإقبال انكماش الصحافة الورقية مردود عليه بأن دولاً أخرى تشهد انتشارًا كبيرًا للصحافة الورقية؛ لأنها تحررت من القيود الغليظة المفروضة عليها في المنطقة العربية!

 الأنظمة الرشيدة لا يجبُ أن تنظرَ بإهمالٍ أو شماتةٍ إلى الصحافةِ الورقيةِ وهي تعاني الاحتضارَ، بل يجبُ عليها أن تمدَّ لها يدَ العون، وتمنحَها إكسيرَ البقاء، بدون عُنصريةٍ أو انتقائيةٍ بغيضةٍ.

الصحافة الورقية الحقيقية.. ليست تلكَ الناطقة باسم النظام “أي نظام”، ولا المدافعة عن أخطائه، ولا التي تُزيِّفُ الواقع، وتخلط الأوراق، ولا تلك التي تُعارضُ من أجل المعارضة، وتتنفس كذبًا، ولكنها –كما قال مصطفى أمين- تلك التي تقولُ للحاكم ما يريده الشعب، ثم ما الذي يُزعجُ الحاكِم –أيَّ حاكم- في أن تتم إحاطته بالحقيقة المجردة أولاً بأول، أوَليس ذلك أفضل له مِن أن يظل مُغيبًا في أبراجه العاجية؟!

 في مصرَ صحفيون مُخلصون لمهنتهم، ولوطنِهم، ولشعبِهم، ولا يجبُ إهمالُهم ولا تشريدُهم شبابًا كانوا أو شيوخًا، ولا تسريحهم للعمل في مزارع صحارى مطروح أو المنيا؛ بزعم أن “المهنة انتهت خلاص”!

 الدولة المصرية –التي انزعجت من تراجع الدراما ورصدت المليارات لتصويب مسارها- قادرة على تبنى مشروعٍ قومىٍّ، بعيدًا عن الأسماءِ سابقةِ التجهيز وصاحبةِ التاريخ العامر بالفشل والإخفاق والتواطؤ، لإعادةِ الحياة إلى الصحافةِ المطبوعةِ، مشروعٍ يكونُ مضربَ الأمثال للأنظمةِ التي تفرغت للتضييق على المؤسسات الصحفية الجادة، وإغلاق أبوابِها بالضبَّة والمفتاح، واعتبرت ذلك إنجازًا لا يُجاريه إنجازٌ، وهي في ذلك مخطئةٌ كلَّ الخطأ، مُقصرة كلَّ التقصير بحقِّ نفسها، ثم بحقِّ شعوبها!

مختار محمود البرعي

كاتب صحفي وباحث

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى