مسرحية “أشلاء”، العمل المسرحي الكوريغرافي التجريبي من تأليف عمران الوطني وإخراج محمد فركاني، تُعد صرخة فنية موجعة تعكس فظاعات الحروب وتأثيرها النفسي والإنساني العميق. قدمت المسرحية عرضها الأول في 26 مايو 2025 بقاعة أبا حنيني التابعة لوزارة الثقافة المغربية بالرباط، محذرة الجمهور من أنها تجربة لن تتركهم كما دخلوا، بل ستواجههم بمرآة الدمار النفسي والوجودي الذي تخلفه الحروب.
نظرة عامة على المسرحية
“أشلاء” ليست مجرد عمل مسرحي تقليدي، بل تجربة كوريغرافية تعتمد على لغة الجسد، الرقص التعبيري، الموسيقى الحية، والسينوغرافيا الوظيفية لنقل معاناة الإنسان في ظل الحروب. المسرحية، التي شارك في تشخيصها محمد شهير، زاهو الهواوي، حنان العلام، وفركاني نفسه، تجسد أجساداً تقاوم القصف وتهرب من أصوات الطائرات والانفجارات، مع التركيز على الجروح النفسية التي تتركها الحروب، مثل الصدمة، الاغتراب، وفقدان الهوية.
تبدأ المسرحية بصوت الراوي “صدى” (بادي الرياحي) على أنغام الفيولونسيل الحزينة للموسيقي سهيل الصباحي، مقدمةً لجو ينذر بالفوضى والألم. النص، المستوحى من دراسات في علم النفس والسوسيولوجيا، يطرح أسئلة وجودية عن جدوى الحروب، صمت العالم أمام المآسي، ومحاولة الناجين لجمع شتات أرواحهم.
العناصر الفنية والتقنية
الكوريغرافيا والتشخيص: الرقصات التعبيرية، التي أداها الثلاثي شهير، الهواوي، والعلام، تجسد مقاومة الأجساد للدمار، مع حركات تعبر عن الألم والتشبث بالحياة.
السينوغرافيا: اعتمد فركاني على جثث ملقاة على الأرض وتقنية الفيديو مابينغ لعرض مشاهد الحرب، الدخان، والأنقاض، مع أصوات استغاثة الأطفال والنساء، بما في ذلك مقاطع من غزة.
الموسيقى والغناء الحي: تضمن العرض أداءً موسيقياً حياً لسهيل الصباحي، وغناء منال فركاني، بما في ذلك أغنية “إني اخترتك يا وطني” لمارسيل خليفة، و”وينن” لفيروز، لتعزيز الحس الوطني والأمل رغم المأساة.
الإضاءة: إضاءة باهتة وقاتمة تعكس الغمة الوجودية للشخصيات.
الملابس: مزيج من زي المحاربين القدامى واللمسات العصرية، مع آثار دماء على الملابس البيضاء لتعزيز رمزية العنف.
الرسالة والتأثير
تتجاوز “أشلاء” تصوير الحرب كحدث مادي، مركزةً على الدمار النفسي والاجتماعي. النص، المستند إلى مراجع في علم النفس، السوسيولوجيا، ودراسات ما بعد الصدمة، يعكس تجارب الناجين الذين يواجهون فراغاً وجودياً وفقداناً للحلم. الشخصيات الثلاث (راوية، صدى، فجر) تمثل تجارب متباينة: الكتابة، البناء، والهروب، مما يجعل العمل مرآة لتعدد آثار الحرب.
المسرحية تطرح تساؤلات عميقة: لماذا تُولد الأوطان إذا كان الرماد مصيرها؟ ولماذا يُترك الناجون في صمت؟ من خلال صوت “صدى”، تُبرز المسرحية تواطؤ العالم الصامت أمام المآسي، بينما تقدم “فجر” بوابة أمل رمزية عبر باب يظهر في جدار ملطخ بالدماء.
السياق والأهمية
بحسب تقرير الجزيرة نت (30 يونيو 2025)، يأتي هذا العمل في سياق عالمي مشحون بالحروب، مع إشارات ضمنية إلى النزاع في غزة، حيث تُظهر المسرحية معاناة الأطفال والنساء ضحايا التقتيل الهمجي. المخرج فركاني، في تصريحه للجزيرة، أشار إلى أن فكرة المسرحية جاءت من مقطع فيديو صادم لغزة، دفعته للتساؤل عن تحوّل الإنسان إلى “أشلاء متناثرة”. الكاتب الوطني أكد أن العمل ليس إدانة مباشرة للحرب، بل مساحة للتأمل في صمت الناجين ومحاولة شفائهم.
التوافق بين المؤلف والمخرج
يُعد “أشلاء” نموذجاً للتعاون الناجح بين الكاتب والمخرج، في ظل التحديات التي تواجه المسرح المغربي، مثل مفارقات النص والإخراج. الوطني وفركاني، اللذان يمتلكان تاريخاً من التعاون في فرقة “مسرح فركانيزم”، بنيا رؤية مشتركة تجمع بين النص الفلسفي والتجسيد البصري، مما قلّص الخلافات التأويلية وأنتج عملاً متكاملاً.
تقييم نقدي
“أشلاء” تتميز بتقنياتها الجمالية العالية، حيث تمزج بين الكوريغرافيا، التشخيص، والموسيقى الحية، مما يجعلها عملاً تجريبياً يتجاوز التصنيفات التقليدية. مقارنةً بأعمال مغربية أخرى تناولت الحروب، مثل “سحت الليل” و”نزهة في ميدان المعركة”، تبرز “أشلاء” بتركيزها على الجوانب النفسية بدلاً من السرد التقليدي، مما يجعلها إضافة مميزة للمسرح التجريبي المغربي.
مسرحية “أشلاء” ليست مجرد عرض مسرحي، بل تجربة إنسانية تُحفز التأمل في بشاعة الحروب وآثارها النفسية والاجتماعية. من خلال لغة الجسد، الموسيقى الحية، والرموز البصرية، تقدم المسرحية صورة صادقة عن الإنسانية المهدورة، مع جرعة أمل تنبثق من قلب المأساة. بدعم من وزارة الثقافة المغربية، يُعد هذا العمل شهادة فنية على زمن الدمار، ودعوة لاستعادة صوت الإنسان وسط الركام.