أقلام حرة

مصطفى عبد السلام يكتب: عقدة رغيف الخبز في مصر

يظل رغيف الخبز عقدة كل الحكومات التي تناوبت على حكم مصر طوال ما يزيد عن نصف قرن، فما أن تفكر أي سلطة قائمة أو حكومة في زيادة السعر حتى تتراجع واضعة أمام أعينها «انتفاضة الخبز»، وما حدث يومي 18 و19 يناير من العام 1977 خلال فترة حكم أنور السادات.

ففي ذلك اليوم خرجت مظاهرات شعبية واسعة ضد الغلاء، ورفضا لمشروع ميزانية أعلنها عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية وقتئذ، أمام مجلس الشعب ويقضي برفع أسعار العديد من المواد الأساسية والسلع التموينية والغذائية، وتطبيق إجراءات تقشفية بحق المواطن بهدف خفض عجز الموازنة العامة استجابة لإملاءات صندوق النقد الدولي في ذلك الوقت واتفاق الحكومة معه.

كان رد فعل الشارع عنيفا وسريعا على الزيادات الجديدة في الأسعار، حيث خرجت المظاهرات للشوارع في المدن والمحافظات المصرية المختلفة، وفي مقدمتها العاصمة القاهرة، وصاحبتها أعمال عنف وإحراق للممتلكات العامة والمقار الحكومية، وهو ما دفع السادات إلى التراجع بسرعة عن قرار الزيادة، وسحب مشروع الحكومة من البرلمان بعدما أطلق على المظاهرات اسم «ثورة الحرامية»، وأوعز إلى الإعلام الرسمي لمهاجمتها بشدة وتشويه الداعين إليها والتحدث عن مخطط شيوعي لإحداث بلبلة واضطرابات في مصر ومحاولة قلب نظام الحكم بالقوة، وتم بالفعل إلقاء القبض على عدد كبير من المتظاهرين والنشطاء، خاصة من أصحاب التوجه اليساري، قبل أن تبرئهم المحكمة.

وربما فيلم «زوجة رجل مهم»، الذي لعب أحمد زكي وميرفت أمين دور البطولة فيه، هو أكثر الأعمال الفنية التي عبرت عن تلك المظاهرات.

وطوال ما يقرب من 30 سنة حاولت حكومات حسني مبارك المتعاقبة الاقتراب من هذا الملف الشائك وزيادة سعر رغيف الخبز، خاصة في المراحل التي دخلت فيها في مفاوضات مع صندوق النقد والبنك الدوليين للحصول على قروض، لكنها فشلت خوفا من ردة فعل الرأي العام، وخاصة أن رغيف الخبز بات طعام معظم المصريين في ظل زيادة أسعار السلع الغذائية البديلة، ومنها الأرز والمكرونة وغيرها.

وفي ظل تلك الاعتبارات وغيرها يمكن النظر لأهمية التحركات الحالية التي تقوم بها السلطات في مصر تجاه فتح هذا الملف الشائك وتخطي عقدة السلطات والأنظمة السابقة وتجاوز هذا الخط الأحمر، ولذا شاهدنا هذه الأيام حديثا رسميا مكثفا عن رغيف الخبز المدعوم، وأن سعره الحالي يقل كثيراً عن كلفة إنتاجه، وأنه لا يزال يباع للمواطن بخمسة قروش، بينما وصلت كلفة إنتاجه إلى 125 قرشاً، وهو أمر يرفع مخصصات دعم منظومة الخبز في الموازنة العامة الحالية إلى ما بين 120 و130 مليار جنيه.

وهذا الكلام مبالغ به، خاصة مع استقرار أسعار الغذاء عالميا، حيث إن مصر تصنف بأنها أكبر مستورد للقمح في العالم، ونظرة لبنود المخصصات في الموازنة العامة تؤكد ذلك، إلا إذا اخذنا في الاعتبار قفزات سعر الدولار مقابل الجنيه في السنوات الثلاث الأخيرة، وما ترتب عليها من زيادة كلفة الواردات على الموازنة العامة.

بل إن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي خرج علينا، يوم الاثنين الماضي، بتصريحات واضحة تقول إن الحكومة تعمل على خطة لتحريك أسعار بيع الكهرباء والخبز المدعوم بصورة تدريجية، بما يتناسب مع الزيادة «الرهيبة» في الأسعار، وارتفاع فاتورة الدعم بنسبة 20% إلى نحو 636 مليار جنيه (13.46 مليار دولار)، في موازنة العام المالي الجديد.

كما شدد على ضرورة رفع أسعار رغيف الخبز على بطاقات التموين، الذي تنتج الحكومة منه نحو 100 مليار رغيف سنوياً، وتبيعه للمواطن بقيمة 0.05 جنيه للرغيف، بدعم يتجاوز 100 مليار جنيه في العام، لا سيما أن الدولة رفعت سعر توريد القمح من المزارعين إلى 2000 جنيه للأردب، بكلفة تبلغ نحو 40 مليار جنيه سنوياً، إضافة لكلفة القمح المستورد من الخارج بالدولار.

هذا التحرك الحكومي لم يأت فجأة ومن باب الصدفة من حيث التوقيت، حيث إنه يأتي في الوقت الذي تستضيف فيه القاهرة بعثة فنية من صندوق النقد الدولي حتى منتصف الشهر المقبل لمراجعة مدى التزام الحكومة ببرنامج القرض المتفق عليه والبالغة قيمته ثمانية مليارات دولار، والذي من أبرز بنوده زيادة الأسعار بما فيها السلع الغذائية، وخفض دعم مشتقات الوقود مثل البنزين والسولار والغاز، وهو ما يعني زيادة أسعارها بشكل متواصل، ورفع سعر الخدمات، مثل الكهرباء والمياه والمواصلات العامة والمترو وغيرها، إضافة إلى تحرير سوق الصرف وبيع الحكومة المزيد من الأصول العامة، سواء البنوك أو الشركات أو الأراضي وغيرها.

وبالتالي لا يمكن فصل التحرك الرسمي للحكومة في التوجه نحو زيادة سعر رغيف الخبز عن الاتفاقات المبرمة غير المعلنة مع صندوق النقد الدولي القاضية بزيادة سعر رغيف الخبز وخفض الدعم الموجه للسلع التموينية، وخصخصة قطاعات خدمية حيوية مثل الصحة والتعليم، وأن الحكومة استجابت بالفعل لتك الضغوط، والدليل تصريحاتها الأخيرة بشأن زيادة سعر رغيف الخبز.

ومن التصريحات المتلاحقة في هذا الملف يبدو أن الحكومة عازمة على اتخاذ قرار زيادة سعر رغيف الخبز وبسرعة غير متوقعة تجنبا لأي صدام مع صندوق النقد الدولي، وهو ما تم الاعلان عنه بالفعل اليوم، حيث تم رفع السعر من 5 قروش إلى 20 قرش بزيادة 300% بداية من الأسبوع المقبل.

ومن هنا يطرح المواطن عشرات الأسئلة التي قد لا يجد لها إجابة عند صناع القرار وكبار المسؤولين.

أول سؤال: هل هذا هو الوقت المناسب لزيادة سعر رغيف الخبز، وخاصة أن الأسواق المصرية تشهد حالة غلاء متواصلة وغير مسبوقة، وأن قدرة المواطن الشرائية انهارت، ولم تعد لديه القدرة المالية أو أي سيولة نقدية لملاحقة الأعباء المعيشية وكلفة الحياة التي باتت مستحيلة على الجميع؟

وثاني الأسئلة: ألا توجد بدائل أمام الحكومة غير تلك الزيادة في سعر رغيف الخبز التي ستضر غالبية المصريين، وكيف ينظر المواطن أصلا لقرار زيادة سعر السلعة الغذائية الأولى في الوقت الذي توجه فيه الحكومة مئات المليارات من الجنيهات لتمويل مشروعات لا تمثل أولوية له ولا قيمة مضافة للاقتصاد في الوقت الحالي، وتغترف مليارات الدولارات من الخارج لإقامة تلك المشروعات وتحميل المواطن كلفة سداد أعباء الديون الخارجية في صورة زيادة متواصلة في الضرائب والرسوم الحكومية وأسعار السلع والخدمات؟

وثالث الأسئلة: ألا تعلم الحكومة أن كلفة بناء البرج الأيقوني في العاصمة الإدارية الجديدة يزيد عن مخصصات دعم منظومة الخبز في الموازنة العامة للدولة لمدة تزيد عن العام، وأن إطعام المصريين أهم آلاف المرات من إقامة أفخم مسجد وأكبر كنيسة وأوسع أوبرا ومدينة فنون في الشرق الأوسط، وأهم مليون مرة من شق نهر صناعي في تلك العاصمة تتم على جانبيه إقامة القصور والفيلات لعلية القوم وكبار رجال الأعمال.

ورابع الأسئلة: أين أموال الإمارات البالغة 35 مليار دولار تمثل قيمة صفقة رأس الحكمة، لماذا لم تخصص الحكومة ثلاثة مليارات دولار منها لتغطية مخصصات دعم الخبز طوال عام كامل؟ في حين خصصت مبالغ ضخمة لسداد مستحقات شركات الغاز والنفط الأجنبية المتأخرة؟

لماذا تستهدف الحكومة دوما مخصصات الدعم المخصصة للفقراء لتقليصها وخفضها دون أن تستهدف مثلا المليارات التي تذهب لأغراض غير ضرورية منها بناء كباري وأنفاق في مناطق سكنية غير مأهولة، أو إقامة قصور أو شراء طائرات فخمة؟

المواطن لا يزال يسأل عن الأولويات التي تاهت عن الحكومة، ومنها الحق في الغذاء ورغيف الخبز والصحة والتعليم والسكن، لأن الحكومة لا تزال ترى أن أولوياتها القصوى مختلفة تماما، وهي إرضاء صندوق النقد وغيره من الدائنين الدوليين حتى تواصل اغتراف القروض السهلة من الخارج، وإغراق الدولة في مستنقع يعلم الله وحده متى وكيف الخروج منه.

مصطفى عبد السلام

كاتب صحفي مصري، وخبير اقتصادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى