المتأمل لبعض البنود الواردة في التعديلات الأخيرة المتعلقة باتفاق تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر يصل إلى نتيجة سريعة لا تحتاج إلى تفكير معمق أو تخصص، وهي أن تلك البنود بمثابة عقد إذعان، وأن خطورة التعديلات لا تقف عند حدود تراكم المكاسب الاقتصادية الضخمة لإسرائيل من الصفقة البالغة قيمتها 35 مليار دولار، بل تكتشف كيف أن المفاوض الإسرائيلي كان في وضع أقوى، لذا استطاع فرض شروطه سواء المتعلقة بسعر الغاز الذي زاد بنحو 14.8% في العقود الجديدة، أو بالكميات المستوردة، أو القيود المتعلقة بإعادة النظر في الاتفاق مستقبلاً، أو التقاضي أمام محاكم أجنبية وليست مصرية في حال حدوث نزاع مستقبلي.
كما تكتشف أنّ تلك البنود مكلفة لمصر اقتصادياً وسياسياً لسنوات طويلة، ولذا فإنّ على الجهات المسؤولة في الدولة المصرية التدخل لتعديلها جذرياً قبل أن يدخل الاتفاق حيز التنفيذ. وبالمناسبة، فإنّ شركة “نيو ميد إنرجي” الإسرائيلية أرسلت نص الاتفاق الذي يحوي تلك البنود المثيرة والمجحفة بحق مصر لبورصة تل أبيب، حيث إن الشركة مدرجة فيها وهو متاح على موقعها الإلكتروني.
وبنظرة للاتفاق تجد أن هناك بنوداً أو شروطاً رئيسية واردة في التعديلات الأخيرة المتعلقة باتفاقية تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، يجب التوقف عندها طويلاً وبحث التداعيات الخطيرة على الاقتصاد المصري والناتجة عن التزام الحكومة بها.
البند الأول في الاتفاق هو أنه ليس من حق مصر “المشتري أو المستورد” تقليل كمية الغاز الإسرائيلي المستوردة إذا انخفض سعر نفط خام برنت عن 50 دولاراً، وهنا تم إلغاء بند رئيسي كان يتيح للقاهرة الحق في تقليل الكميات القصوى TOP المستوردة من إسرائيل إذا انخفض سعر النفط عن هذا الرقم. وهذا التعديل جرى استحداثه، إذ إن الاتفاقية الأولى المبرمة بين الجانبين المصري والإسرائيلي عام 2019 نصت على حق الطرف المصري في تخفيض كمية الاستلام أو الدفع إذا انخفض سعر النفط عن هذا المبلغ.
كما ينص الاتفاق الجديد على أن مصر لن يكون لها الحق في خفض كميات الغاز التي تستوردها من إسرائيل إلا بدءاً من العام 2035؛ إذ سيتفق الطرفان على تحديث الأسعار لتزيد أو تنقص 10% بحد أقصى، حتى لو انخفضت الأسعار العالمية بأكثر من 10%، وفي حال لم يتفق الطرفان على تحديث الأسعار، يمكن لأي منهما خفض الكمية المستوردة يومياً بنسبة تصل إلى 30%.
وهذه التعديلات الخطيرة تعني أن مصر ستظل تستورد نفس الكميات المتفق عليها سواء تراجع سعر الغاز عالمياً أم لا، وفقاً لشروط محددة تنطبق على آخر خمس سنوات من الاتفاقية. كما تعني أن مصر ستتحمل أعباء مالية، ولن تستفيد من احتمالية تراجع أسعار الغاز والنفط في الأسواق العالمية، وستظل ملزمة بدفع كامل قيمة الصفقة وفقاً للأسعار المحددة حالياً، حتى إذا تراجعت الأسعار مستقبلاً، وهو أمر محتمل بقوة، أو حتى لو انخفضت احتياجات الأسواق المصرية من الغاز بدخول المفاعل النووي الجاري تأسيسه حيز الإنتاج أو التوسع في مشروعات الشمسية الطاقة والمتجددة.
وأحدث التوقعات الصادرة عن كبريات البنوك والمؤسسات العالمية ترشح بقوة تراجع سعر النفط؛ فبنك جي بي مورجان الأميركي حذر قبل أسابيع من هبوط الأسعار إلى 50 دولاراً للبرميل أو أقل، حيث زيادة في العرض العالمي على حساب الطلب. وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حذرت السعودية من أن الأسعار قد تنخفض إلى 50 دولاراً إذا لم يلتزم أعضاء تحالف أوبك+ بقيود الإنتاج المتفق عليها. وتوقعت إدارة معلومات الطاقة الأميركية قبل أيام أن يبلغ متوسط سعر خام برنت في السوق الفورية أقل من 50 دولاراً خلال عام 2026.
مصر ستتحمل أعباء مالية، ولن تستفيد من احتمالية تراجع أسعار الغاز والنفط في الأسواق العالمية
يضاف إلى ذلك أنّ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تعطي أولوية لخفض تكاليف الطاقة وأسعار النفط بشكل كبير لصالح المستهلك، ويمارس ترامب ضغوطاً على الدول النفطية المنتجة ومنها دول الخليج لخفض أسعار النفط إلى 50 دولاراً، بل نجد أنّ بيتر نافارو كبير مستشاري البيت الأبيض يشارك في تلك الضغوط إذ يرى أن انخفاض أسعار النفط إلى هذا الحد سيساعد في كبح التضخم بالولايات المتحدة وخفض الأسعار بشكل ملحوظ وهو ما يرضي الناخب.
وبالنسبة لأسعار الوقود الأزرق، فقد تراجعت العقود الآجلة للغاز الطبيعي الأميركي هذا الأسبوع إلى أقل من 2.9 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وهو أدنى مستوى لها منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2024، متأثرةً بتراجع الإنتاج إلى مستويات قياسية، ومستويات التخزين القوية، وتوقعات الطقس المعتدل.
بند آخر يتعلق بصفقة استيراد الغاز الإسرائيلي وهو أنه وفقاً لنص الاتفاقية، يجري الاعتماد على Take or Pay، والذي يلزم مصر بدفع قيمة كميات الغاز المتفق عليها سنوياً، سواء تسلّمتها بالفعل أو لا بسبب انخفاض الأسعار أو عدم الحاجة إليها، وهو ما يضمن مكاسب مستقرة ودائمة لإسرائيل، بغضّ النظر عن التغيّرات في السوق أو مدى حاجة القاهرة لما ستستورده من غاز.