قد تتحوّل سوريا إلى سوق ضخمة جاذبة للعمال العرب الباحثين عن فرصة عمل مناسبة خلال الفترة المقبلة، وبديل قوي لدول أخرى ظلت لسنوات طويلة محطّ أنظار وجذب تلك العمالة، وفي مقدمتها دول الخليج والعراق والأردن وليبيا. سوريا مقبلة على تنفيذ مشروعات إعادة إعمار عملاقة في كل القطاعات، وأولها في البنية التحتية والتشييد والبناء والزراعة والسياحة والخدمات، وهي القطاعات التي تستهلك عمالة ضخمة، وليس شرطاً أن تكون ماهرة ومدربة أو محترفة.
العمالة العربية المرشّحة للعمل في سوريا
وفي نظرة إلى خريطة العمالة العربية المرشّحة للاستفادة من فرص العمل المحتملة داخل سوريا، نجد أن في المقدمة العمالةُ المصرية واللبنانية والفلسطينية والسودانية والتونسية والجزائرية والمغربية واليمنية والموريتانية، فهؤلاء كانت وجهتهم المفضلة طوال العقود الماضية هي الدول الخليجية النفطية الثرية، كالسعودية وقطر والكويت والإمارات.
كما جذبت دول عربية عدّة هذه النوعية من العمالة، منها العراق والأردن لأسباب عدّة، أهمها انتعاش أبرز قطاعَين جاذبَين للعمالة لديهما، الأول هو التشييد والبناء والعقارات، والثاني هو الزراعة، كما مثلت ليبيا أيام حكم معمر القذافي متنفساً قوياً للعمالة المصرية والمغاربية والأفريقية خاصّة في قطاعَي البناء والنفط، إذ كان يعمل بها ما يزيد عن 2.5 مليون عامل قبل العام 2011، منهم 1.5 مليون من مصر وحدها.
تراجع العمالة العربية في دول الخليج
الآن، تغيرت الخريطة المتعلّقة بفرص العمل المتاحة داخل دول المنطقة، صحيح أن دول الخليج لا تزال هي السوق المفضلة للعمالة العربية، لكنّ هذه السوق شهدت تغيرات في السنوات الأخيرة، فقد اعتمدت أكثر على العمالة المحلية، مع التوسع في سياسة التوظيف الحكومي وتوطين العمالة، أو ما يعرف بـ”الخلجنة”، وذلك بهدف مواجهة ظاهرة البطالة التي تنامت داخل تلك الدول الثرية خصوصا بين الشباب وخريجي الجامعات.
صاحَب تلك الأوضاع الداخلية المعقدة زيادة في تكاليف المعيشة والسفر ورسوم الإقامة للعمالة الوافدة داخل بعض دول الخليج، وتقليص الحوافز المالية وتضييق التأشيرات على الوافدين، وهو ما عقّد أحوال العمالة الوافدة، كما أن تهاوي أسعار النفط وجائحة كورونا والخلافات السياسية بين دول خليجية وعربية تسببت في طرد مئات الآلاف من العمال العرب من تلك المنطقة كما جرى في العامين 2014 و2017.
الخليج يتجه نحو العمالة الأجنبية المدربة
هذا عن السنوات الماضية، أما بالنسبة للسنوات المقبلة، فإن منطقة الخليج تتجه للاعتماد أكثر على العمالة الأجنبية المدربة والخبرات والكوادر البشرية التي لديها تعليم عالٍ وخبرات، وذلك للالتحاق بقطاعات الطاقة من نفط وغاز والبنوك والخدمات المالية والصناعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ولم تعد بحاجة إلى العمالة التقليدية التي تصلح أكثر لأعمال المقاولات والبناء.
كما أن توقعات تراجع أسعار النفط وتفاقم عجز الموازنات العامة والدين المحلي وتراجع الإيرادات الرسمية قد يعيد سيناريو استغناء بعض الحكومات الخليجية عن جزء من العمالة الوافدة، وفي حال حاجة دول الخليج إلى عمالة غير مدربة لتلبية احتياجات بعض القطاعات كالزراعة والتجارة والخدمات المعاونة فإنها غالبا ما تلجأ إلى العمالة الآسيوية، خاصّة الهندية والبنغالية والشرق آسيوية، بسبب رخص تكلفتها.
ليبيا أغلقت أبوابها أمام العمالة
أما بالنسبة للدول العربية الأخرى التي كانت مستقبلاً رئيسياً للعمالة الوافدة، فإن أحوالها الداخلية الحالية لا تشجع على استقدام العمالة الخارجية، فليبيا أغلقت أبوابها أمام العمالة المصرية والعربية والأفريقية منذ سنوات، خاصّة مع مرورها بفترات من الاضطرابات الأمنية والسياسية وأزمة اقتصادية ومالية حادة دامت سنوات كما جرى في الفترة من 2011 وحتى أيام مضت.
ولا يختلف الحال كثيراً في الأردن التي يُقدّر عدد العمالة الوافدة فيها بنحو1.57 مليون عامل رغم أنها تعاني من بطالة واسعة وتضخم جامح في الأسواق منذ سنوات، وبسبب تلك الحالة أعلنت وزارة العمل الأردنية، يوم الخميس الماضي، وقف باب استقدام العمالة غير الأردنية أو الأجنبية حتى إشعار آخر، وإجراء دراسة متأنية ووافية لقياس احتياجات سوق العمل المحلية، ومن وقت لأخر تشن حملات أمنية على العمالة المخالفة.
أما العراق فقد انكفأ على الداخل في ظل زيادة معدلات البطالة والتضخم واضطراب سوق الصرف وتراجع الإيرادات النفطية في السنوات الأخيرة، ومروره باضطرابات اقتصادية وسياسية وأمنية حادة، خاصة في الفترة التي أعقبت الغزو الأمريكي واحتلال الولايات المتحدة بغداد في عام 2003.
سوريا المتنفس للعمالة العربية
في ظل هذا المشهد المعقد أمام الفرص الضئيلة العمالة العربية تظل سوريا متنفساً مهماً لتلك العمالة الباحثة عن فرصة عمل مناسب وأجر مقبول، في ظل توقعات بإقبال الدولة السوريا على نهضة عمرانية واسعة، تعيد بناء ما هدمته الحرب التي زادت عن عقد، ومع تراجع المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية داخل الدولة، ورفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن الاقتصاد السوري، وتدافع المستثمرين العرب والأجانب نحو دراسة فرص الاستثمار المتاحة، بل وتوقيع اتفاقات ضخمة بالفعل كما جرى يوم الخميس الماضي، تظل الحاجة إلى عمالة وافدة ضرورة ملحة للمشاركة في تنفيذ مشروعات سوريا تقدر كلفتها الاستثمارية بأكثر من 400 مليار دولار.
لكن هذا الهدف يحتاج أولا إلى بيئة مستقرة واستقرار سياسي وأمني ملحوظ، ودخول النظام السوري في مصالحات مع الأنظمة العربية المحيطة.