مصطفى عبد السلام يكتب: ليبيا المنقسمة والمأزومة تعود مجدداً للواجهة
عادت ليبيا إلى نقطة الصفر والمربع الأول بعد شهور طويلة من الهدوء النسبي، وعادت إلى الواجهة صورة ليبيا المتحاربة والمنقسمة سياسياً وأمنياً والمأزومة اقتصادياً واجتماعياً والمنهوبة مالياً، والعاجزة عن استرداد نحو 200 مليار دولار من الأموال المجمدة في البنوك الغربية، والخاضع قطاعها النفطي والمالي للتجاذبات السياسية.
وبعد أن هدأت أصوات المدافع والرصاص والطائرات المقاتلة في سماء العاصمة طرابلس وبنغازي وطبرق ومصراتة والزاوية وغيرها عقب فترة من الاستقرار السياسي، وتفاهمات بين حكومة الوحدة الوطنية بطرابلس المعترف بها دولياً وحكومة مجلس النواب بطبرق غير المعترف بها، عاد العالم فجأة ليتذكر ليبيا المنقسمة والمأزومة، ومشاهد الصراعات المسلحة والاقتتال الداخلي والحروب الأهلية التي مزقت البلد العربي النفطي على مدى فترة تصل إلى نحو 10 سنوات، وتسترد الذاكرة أنباء اندلاع مواجهات مسلحة بين الفرقاء السياسيين عقب إطاحة نظام معمر القذافي في العام 2011.
فجأة، عاد شبح الخلافات الحادة بين طرابلس وطبرق وأجواء الاستقرار الهش يطل مجدداً على الليبيين، ليضع عشرات من علامات الاستفهام حول مستقبل البلاد السياسي والاقتصادي، ومصير مئات الأخبار الإيجابية التي خرجت من ليبيا في الفترة الماضية ولم يتم تحقيق معظمها بعد.
كان من عينة تلك الأخبار إعلان حكومة الوحدة الوطنية عن خطط اقتصادية طموحة مثل مكافحة الفساد المستشري، وإعادة الاستقرار الأمني والمالي، وتحسين أجور العاملين في الدولة، ورفع المستوى المعيشي للأفراد، وتحسين البنية التحتية من طرق وكباري وشبكات كهرباء ومياه وصرف صحي واتصالات، وزيادة إنتاج النفط الخام إلى مليوني برميل يومياً في نهاية العام القادم 2025، و1.5 مليون برميل في نهاية العام الجاري، مع تخصيص استثمارات بقيمة 17 مليار دولار في قطاع الطاقة لتطوير الحقول المنتجة للنفط وإعادة تأهيلها، وإعادة فتح الآبار المغلقة، ومن ثم زيادة الإنتاج النفطي إلى الوصول إلى هذا المستوى، وكذا تحسين الإيرادات النفطية البالغة نحو 20 مليار دولار في العام الماضي.
كانت السلطة الحاكمة في ليبيا تتحدث أيضاً عن اقتحام سوق إنتاج الغاز الطبيعي الواعد، حيث إن الدولة تعوم على بحار من الوقود الأزرق في مياه البحر المتوسط وغيره من أراضي الدولة، وإعادة شركات الطاقة العالمية للعمل في ليبيا والمساهمة في المشروعات التنموية والخطط المعتمدة لزيادة الإنتاج.
لكن كل تلك الأخبار والخطط تبخرت خلال الأيام الأخيرة مع تجدد الخلافات بين برلمان طبرق وحكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، كان محور الصراع هذه المرة حول مجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي ومحافظه الصديق الكبير، فحكومة طرابلس قررت تغيير المحافظ ومجلس الإدارة، وهو ما رفضته حكومة طبرق، وصاحب الصراع صدور قرار أحادي من كل طرف مع قيام عناصر مسلحة بمحاصرة مقر المصرف، بل وخطف قيادات فيه تم الافراج عنها لاحقا.
امتد الصراع بعد ذلك إلى القطاع النفطي، إذ قررت حكومة طبرق التي يديرها اللواء المتقاعد خليفة حفتر وقف إنتاج النفط وتصديره ليجفف مصادر النقد الأجنبي، إذ إنّ النفط هو المصدر الرئيسي لإيرادات النقد الأجنبي في ليبيا والعماد الرئيسي لإيرادات البلاد. ومثلت الإيرادات النفطية نحو 96.7% من إجمالي إيرادات عام 2023، بقيمة تصل إلى 20.4 مليار دولار.
الصراع الأخير الحالي في ليبيا والبالغ ذروته هذا الأسبوع لم يربك المشهد الداخلي والقطاع المصرفي والمالي والنفطي والقوى الإقليمية المهتمة بالشأن الليبي، بل أربك سوق الطاقة العالمي، حيث إن ليبيا عضو مهم في منظمة الدول المنتجة للنفط، وتعتمد بعض الأسواق الأوروبية على النفط الليبي.
وهذا ما يبرر تحرك الأمم المتحدة العاجل لاحتواء الأزمة المتعلقة بالبنك المركزي الليبي والشلل الذي أصاب القطاع النفطي، ومحاولة تسوية الخلافات الأخيرة بين الفرقاء المتصارعين، ونزع فتيل أي توتر يزيد المخاطر الجيوسياسية في المنطقة اشتعالاً، فهل تنجح تلك الجهود التي تشارك فيها أيضا الولايات المتحدة وقوى أوروبية، أم تعود ليبيا إلى نقطة الصفر والاقتتال الداخلي.