مصطفى عبد السلام يكتب: مصر.. وبعثة صندوق النقد الدولي

حصلت الحكومة المصرية بشق الأنفس على الشريحة الرابعة من قرض صندوق النقد الدولي والبالغة قيمتها 1.2 مليار دولار وذلك بعد شهور من تلكؤ المؤسسة المالية،
وكانت الفاتورة المحملة على المواطن قاسية مقابل تمرير تلك الشريحة، إذ عانى المصريون زيادات قياسية في سعر الوقود من بنزين وسولار وغاز منزلي وتجاري،
وجدنا قفزة في تكلفة المعيشة وأسعار السلع الرئيسية والسلع الغذائية الاستهلاكية اليومية والأجهزة المنزلية، ارتفاعاً في تكلفة المواصلات العامة،
زيادة في أسعار الخبز السياحي أو الحر وغيرها، تخفيضاً في قيمة الجنيه رفع سعر الدولار لأكثر من 51.5 جنيهاً، وغيرها من الإجراءات التقشفية الحادة.
وفي الوقت الذي لم يلتقط فيه المواطن أنفاسه من فاتورة الشريحة الرابعة التي تمت مراجعتها الشهر الماضي،
يستعد صندوق النقد لزيارة القاهرة في الأيام المقبلة لبدء المراجعة الخامسة للبرنامج المصري المتفق عليه مقابل قروض بقيمة ثمانية مليارات دولار،
إذ يجري حالياً وضع الموعد النهائي بين فريق بعثة صندوق النقد مع الحكومة المصرية، لبدء إجراءات مراجعة جديدة للبرنامج الاقتصادي.
ظروف اقتصادية صعبة
بعثة صندوق النقد تصل القاهرة هذه المرة في ظل ظروف اقتصادية صعبة ناتجة عن ضغوط محلية وخارجية،
فهناك حرب غزة التي لا تزال ترفع مستوى المخاطر الجيوسياسية في المنطقة وتؤثر سلباً على اقتصادات دول المنطقة،
وهناك خسائر قناة السويس والبالغة سبعة مليارات دولار في العام الماضي بسبب زيادة حدة التوتر في البحر الأحمر،
وتجدد هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية والأميركية وسفن الدول الداعمة للاحتلال،
والجديد تهديد دونالد ترامب للقناة المصرية ومحاولة حرمانها من نحو مليار دولار تسددها السفن الأميركية المارة بالممر المائي سواء كانت تجارية أو عسكرية.
كما تأتي البعثة في خضم حرب تجارية شرسة يشنها ترامب على دول العالم ومنها مصر عبر فرض رسوم جمركية على وارداتها للأسواق الأميركية، كما تأتي وسط شبح تضخم يلوح في الأفق تصاحبه زيادة في أسعار السلع الرئيسية من أغذية ومواد خام وسلع وسيطة.
موجة تضخم على الأبواب
داخلياً فإن بعثة الصندوق تصل القاهرة في الفترة المقبلة وهناك موجة تضخم على الأبواب مع الزيادات المتواصلة في أسعار السلع والخدمات،
ووفق أحدث تقارير للبنك الدولي، من المتوقع أن يسجل التضخم في مصر 20.9% خلال العام المالي الحالي، و15.5% في العام المالي المقبل، و12.2% في 2026-2027.
وهناك ضغوط أخرى ناتجة عن توقعات باتساع عجز الحساب الجاري في السنة المالية الحالية 2025 إلى 6.3% من الناتج المحلي بسبب زيادة واردات الغاز، وتباطؤ تعافي إيرادات قناة السويس.
علما بأن الحكومة قدرت المخصصات المالية اللازمة لاستيراد شحنات الغاز المسال والمازوت لتوفير احتياجات البلاد من الوقود خلال السنة المالية المقبلة 2025-2026 بنحو 9.5 مليار دولار، مقابل أكثر من 6 مليارات دولار تم انفاقها بالفعل خلال العام الجاري وحتى الآن.
ديون خارجية مستحقة
وهناك أيضاً أعباء ديون خارجية مستحقة على مصر خلال الربع الرابع من السنة المالية 2025 قيمتها 11.1 مليار دولار،
بالإضافة إلى الالتزام بسداد المتأخرات المستحقة لشركات النفط الأجنبية، وهو ما يعني أن احتياجات مصر من التمويل الخارجي كبيرة وفق التقرير الأخير الصادر عن البنك الدولي.
ورغم مساهمة انخفاض أسعار النفط والغاز العالمية مؤخراً في تخفيف الضغوط على الحساب الجاري لمصر، فإن ذلك قد يقابله انخفاض محتمل في تحويلات المصريين العاملين بالخارج، خاصةً من دول الخليج المُصدّرة للنفط مثل السعودية والإمارات والكويت.
وعلى مستوى المؤشرات المالية فإن الدين العام تفاقم بشدة، وهو خبر غير سار لصندوق النقد، إذ بلغ الدين بنهاية العام المالي 2023/ 2024، نحو 11.4 تريليون جنيه،
أي ما يعادل 223 مليار دولار، مقابل 8.6 تريليونات جنيه في نهاية يونيو 2023، بزيادة 2.8 تريليون جنيه خلال عام، وبنسبة نمو كارثية بلغت 33.1%.
كما بلغت أعباء خدمة الدين العام 2.639 تريليون جنيه، منها 1.355 تريليون جنيه فوائد و1.283 تريليون جنيه أقساط مستحقة،
ما يمثل نحو 60.3% من إجمالي استخدامات الموازنة، وهو ما يعني أن أعباء الدين ستلتهم الجزء الأكبر من إيرادات الدولة.
أخبار إيجابية
لكن في المقابل فإن هناك أنباء إيجابية في انتظار البعثة المقبلة لصندوق النقد الدولي أبرزها تراجع أسعار النفط وبلوغه اليوم الاثنين أدنى مستوى منذ عام 2022،
وهو ما قد يخفف ضغوط الصندوق على الحكومة المصرية والرامية لتحرير أسعار الوقود بنهاية العام الجاري، كما أن استمرار التهاوي في صالح الموازنة المصرية ومواردها الدولارية،
خاصة أن هناك توقعات لبنوك دولية بارزة منها جولدمان ساكس غروب، بأن ينخفض سعر خام برنت القياسي دون مستوى 40 دولاراً للبرميل في نهاية عام 2026،
مع اشتعال الحرب التجارية وزيادة الإمدادات في السوق العالمية، وأن يصل السعر إلى 55 دولاراً للبرميل في ديسمبر المقبل.
وهذا التهاوي يوفر مليارات الجنيهات للموازنة المصرية خاصة إذا ما علمنا أن الأرقام الرسمية تقول إن واردات مصر من شحنات الوقود ارتفعت بنسبة 26% في 2024 لتصل إلى 15.5 مليار دولار مقابل نحو 12.3 مليار دولار خلال 2023.
وهو ما يبرر قرار الحكومة خفض تقديراتها لسعر برميل البترول إلى 77 دولارا في الموازنة الجديدة 2025-2026 مقابل 82 دولار للبرميل في موازنة العام المالي الحالي 2025/2024.
ورغم هذا الوفر المحقق فإننا لا نتوقع اقدام الحكومة المصرية على خفض أسعار الوقود،
حتى لو تهاوت أسعار النفط، بل إن وزارة البترول قد تُحقق وفراً جيداً ربما على حساب المستهلك النهائي الذي سيتم تحميله لوحده بتكلفة الوقود.
ومن الأخبار الإيجابية أيضا تدفق الاستثمارات الخليجية على مصر في ظل أنباء عن اتفاق الكويت وقطر مع الحكومة المصرية على تحويل ثمانية مليارات من الودائع المودعة لدى البنك المركزي المصري إلى استثمارات مباشرة،
وهو ما يخفف أعباء الدين الخارجي، ويمثل متنفساً للاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي. وفي وقت سابق،
جرى الحديث عن تفاوض الحكومة المصرية على تحويل ودائع سعودية بقيمة 5.3 مليارات دولار مستحقة على مصر مقابل شراء أراضٍ وأصول عامة،
كما أعلنت الحكومة عزم السعودية ضخ استثمارات بقيمة خمسة مليارات دولار.
زيادة الإيرادات الضريبية
من النقاط الإيجابية أيضاً، من وجهة نظر الصندوق والحكومة المصرية، إيفاء الحكومة بالتزاماتها الرامية إلى زيادة الإيرادات الضريبية التي ارتفعت خلال الأشهر الثمانية المنتهية في فبراير الماضي 38.4% لتصل إلى 1.23 تريليون جنيه،
وكذا الإسراع في بيع شركات تابعة للمؤسسات السيادية، والتوسع في التعليم الأهلي والخاص على حساب التعليم الحكومي.
ورغم تلك النقاط فإن مهمة بعثة صندوق النقد في القاهرة قد لا تكون سهلة هذه المرة كما في المرة السابقة،
فهناك ملفات مؤجلة ستطرحها البعثة على الطاولة مجدداً منها الإسراع في بيع أصول الدولة من شركات وبنوك وأراضٍ، وتحرير أسعار الوقود نهائياً،
والنظر في زيادة أسعار سلع أساسية منها رغيف الخبز المدعم وفواتير الكهرباء والمياه والرسوم الحكومية،
وسداد مستحقات شركات النفط والغاز العالمية، وربما مرونة أكبر في سوق الصرف الأجنبي.